|
كل أربعاء في بيت مهجور منذ زمن؟ ماذا تفعل به حين يغلق نوافذه على نسيم عمره الدافئ, ويغتسل من صخبه وجنون شبابه, ويستقيل من مغامراته الباحثة دوما عن أسرار الكون في عالم مغلق على مجاهيله, علّمنا أسماءنا وحجب عنا معانيها, ورسم صورنا بفرشاة رمادية ثم جللها بالصمت كي لا تبوح اللغة بأوصافنا الكاملة. ماذا تفعل بهذا الساكن المخزون بمرارات زمنه, وهو يفكك أحاجي رحلته الطويلة من اشتهائه الأول إلى حرمانه الأخير, ومن شغبه الصبياني المبكر, إلى سلام كهولته المتأخرة, ومن أحلامه الطائرة في سماوات العمر إلى يأسه الراقد بجانبه اليوم على كرسي اعتراف أبكم, يغمغم بخيباته وانكساراته, ويهذي بأناشيده الجوفاء العارية من إيقاعها, بعد أن اختنق رنينها في آبار الأوجاع والآلام والسأم! في مسير طويل خطا خطواته الأولى على بساط من الضوء, واكتشف قعوده الأخير وسط عاصفة من الغبار لم تكتمل عتمتها بعد! تقترب من قلبك بحنين نحو صديق قديم, وتتفقد صورك اليابسة على جدرانه, هواء الطفولة أول ما اصطفقت الأشجار, ذات صيف غصنا بغصن, وأول ما نطقت الطبيعة بلغتها العذراء بين جبل متعال وواد مكتنز بالخضرة والينابيع, بين طيور تكتشف طرقها في الفضاء بأجنحة لينة وريش ملون, ثم تحط على مقربة من طرفك السارح بكل اتجاه, يتهجى مفردات كون غامض, يخلع ثيابه أمام عينيك في وضح النهار كجنيات الأساطير, تستحضر صورتك تلك فلا تعثر إلا على اليباس الذي ينهال عليه الغبار من كل جهات الأرض. تقترب من صديقك القديم, وتتحسس بأصابعك المرتجفة حرارة صباه وشبابه, ولهك القديم وحماستك لابتداع الحياة على قياس حلمك, طهرك القومي في زمن الدويلات البلهاء الممزقة بمبضع جراح من خلف المحيطات, تقاسم مع حوارييه ترابك العابق بروائح النخيل والصنوبر, ورماك على قارعة الطريق بنشيد أجوف وعلم تشظت نجومه غربا وشرقا في متاه طويل لم يهتد إلى طريقه المستقيم بعد,.. تقترب من وجعك القديم الذي تلعثم بمقطع من الشعر أول مرة, وبقصيدة حب طارت من أوراقك إلى عينين سوداوين مكحولتين بحلم خجول, تنشره على ساحل أزرق, تتبادل فيه الماء واليابسة طقوس عشقهما القديم, قصيدة مشغولة بباقة من الأوهام ومقطع من اليقين, تسلقت مستحيلات كثيرة وزرعت ياسمينها وزنبقها في تربة بكر تنتظر موسم خصبها المأمول. قلب ذابل تتشكل فيه الصور وتموت, كقطع من السحاب تعبر الأفق نحو نهايات غامضة, أصحاب ورفاق عبروا طرق القلب, ثم استعجلوا نهاياتهم كمساكب الورد البري, أماكنهم لاتزال ترتسم على شرفات العيون كأعلام فيالق قديمة زحمت وجه الدنيا قبل قرون وانطفأت خلف جبال بعيدة, أصواتهم لا تزال تردد غناءهم الممزوج بشجن أيامنا المطفأة على طرقات العمر كشموع لم يكتمل اشتعالها في متاهات هذا الليل الطويل. هذا القلب الذابل ماذا تفعل به الآن, وهو ينطوي في جوف الصدر على يباس الأحلام والصور والأغاني المشبعة بمرارات العمر, كيف تقرأ نبضه المتثاقل عاريا من الحب, فارغا من الأمنيات, خاليا من رنين الشعر, مستوحشا في غابة ساكنة لا تستأنس إلا بالعواصف والأمطار, ولا تزورها إلا الأشباح الطالعة من عتمة الماضي السحيق. قلب ذابل تتوالى أيامه, كأوراق روزنامة صفراء على حائط متهالك, في بيت مهجور منذ زمن طويل, يعكف على تفكيك أحاجي رحلته البائسة من اشتهائه الأول, حتى حرمانه الأخير. |
|