|
ثقافـــــــة عدوهم اللدود.. يتمثّل في بياض الأوراق.. هل تنحصر القضية بامتشاق القلم واستخلاص الأفكار.. تفريغها على الورق.. هل يبدو الأمر بهذه السهولة.. ؟ عندما كان ينتهي من كتابة رواية.. كان الروائي البرتغالي خوسيه ساراماغو يقول: (انتصرت في المعركة و الآن يجب أن أُلقي الموتى).. وتوضح مترجمته التي أصبحت فيما بعد زوجته بيلار دل ريو، أن الموتى ليسوا سوى الكلمات و العبارات الزائدة. على ذلك.. الحالة فعلياً.. تتماهى مع كونها معركة.. فكيف يعدّون عدّتهم اللازمة ليكون النصر حليف كلماتهم.. ؟ للإبداع كينونة.. الخلق الإبداعي يحتاج كينونةً خاصة تحفّز الإنتاج و تقبض على النشوة الكتابية في لحظات وهجها العظمى. يختلف الروائيون في وصولهم لهذه الحالة من النشوة الإبداعية.. إذ ثمة وسائل.. ثمة أشياء و أجواء يسعون وراءها تُعينهم على الإبداع.. و تنشّط قريحة الكتابة. يذكر أحد المشتغلين بضرورات الفن الكتابي: (الكتابة مهنة التوحد والعزلة.. الأسرة والأصدقاء والمجتمع هم الأعداء الطبيعيون للكاتب. إنّه بحاجة إلى أن يكون وحيداً، لا يقطع أحد عليه عمله. وهو يصير متوحشاً بعض الشيء إذا أرغم على كبح جماح كتابته). الانغمار و الانغماس في بوتقة الإبداع يحتاج، حقيقةً، إلى ذلك.. إلى مشغل فعلي واقعي تتوافر فيه كافة احتياجات المبدع.. المعنوية منها قبل المادية المحسوسة.. كيف وفّر بعضهم مشغله الخاص.. ؟ ما هي حيله التي توسّلها في مراوغة (جنية الإبداع).. ؟ بعضهم اعتاد الكتابة اليومية.. قهراً لحالة نفاد الخصوبة. تؤكّد أرملة ساراماغو أنه كان يكتب صفحتين يومياً على الأكثر.. (كان يكتب على الكمبيوتر مباشرة، وبالتالي من الصعب معرفة إن كان يمسح أم لا، كما أنه كان يطبع الرواية بعد أن يتيقن أنها على شكلها النهائي... أضيف فقط أنه كان يكتب صفحتين في اليوم، ولم يكن يكتب أكثر من ذلك. وكان يقول دائماً: على الكاتب ألا يتعجل وعليه ألا يهدر الوقت كذلك).. و هنا يبدو السؤال: هل الكتابة فعل آلي.. فعل وظيفي.. و هل يمكن تعاطيه في أي زمان و مكان و مهما كان الظرف المحيط.. ؟ الروائية البلجيكية إميلي نوتومب التي تعبر عن حالة الكتابة دون كلل ولاملل وشكّلت ظاهرة تُسمى الظاهرة «النوتومبية» تقول بهذا الشأن: (يجد الكاتب صعوبة قصوى في الشروع بكتاب جديد بُعيد الانتهاء من عمل سابق، أما أنا فوجدت حلاً مثالياً للمشكلة، ألا أتوقف أصلاً عن الكتابة). منذ عشرين سنة و نوتومب تلزم نفسها بنظام صارم.. يقتضي الاستيقاظ في ساعات الفجر عند الرابعة صباحاً والاستغراق في الكتابة مدة أربع ساعات يومياً.. و كذلك كان يفعل الياباني هاروكي موراكامي.. على العكس منهما كان الألماني فرانس كافكا الذي اعتاد الكتابة ليلاً من الحادية عشرة حتى ساعات الفجر الأولى. في كتابها (باولا)تذكر الروائية التشيلية إيزابيل الليندي شيئاً من عادات الكتابة لديها.. فهي من النوع الذي يلزم نفسه بنظام دقيق و برنامج محدد تنفذه سنوياً.. إذ تهجر حياتها المعتادة لتحيا في منزل خاص وحيدة متفرّغة للإبداع. تقضي في الكتابة من عشر إلى اثنتي عشرة ساعة يومياً. في موضع ما، تقول: (لا أتحدث مع أحد، و لا أتلقى مكالمات هاتفية. أنا مجرد وسيط أو أداة لشيء يحدث لي، أصوات تتكلم من داخلي. إنني أخلق عالماً روائياً و لكنه لا ينتمي لي). تختلف أمزجة الروائيين في اختيار أجوائهم.. بعضهم يسعى وراء الهدوء.. يغلّف نفسه بالوحدة و الصمت و آخرون يغلّفون أنفسهم بالضجيج و الصخب.. البعض ينشط صيفاً و آخرون تستعر الكتابة دفقاً بين يديه خريفاً. مارسيل بروست عُرف عنه أنه لا يستطيع الكتابة إلا على ضوء الشموع عند دخوله غرفته ليلاً في صمت كامل و الجدران مغلّفة بألواح الفلين لمنع تسلل الصخب. أما جورج إليوت فكانت قريحتها لا تجود إلا وسط ضجيج أبناء شقيقتها.. تجلس في صالة البيت التي تعج بأصواتهم و نزق لعبهم. منهم من كان نتاجه موسمياً.. يقدح زناد الخلق لديه فصلياً. الشاعر شيللي كان يبدع نصوصه خريفاً في زحمة تساقط أوراق الأشجار.. بينما كيتس كان يكتب غالباً في أجواء الصيف. ربما مالت عادت الكتابة لدى البعض منهم نحو غرائبية الأفعال و الأجواء التي يطلبون.. و هي على ما يرون ضرورية لتتفتق أذهانهم خلقاً و إبداعاً. دان براون عندما تستعصي عليه الكتابة يمارس تمارين رياضية.. منها رياضة الوقوف على الرأس التي يرى أنها تساعده في حل صعوبات الحبكة الروائية. و كان أرنست همنغواي لا يبدأ الكتابة إلا و هو بكامل أناقته و كأنما يذهب للقاء شخصياته فعلياً.. و مما عُرف عنه أنه كان يقوم بتجهيز أقلام الرصاص من الليل.. و يبدأ الكتابة و هو واقفٌ على رجليه منتعلاً حذاءً أكبر من مقاسه.. و عُرف عنه أيضاً لجوؤه إلى حيلة تبعده عن رؤية بياض الورق.. إذ كان لا يكتب إلا على ورقة خطّ عليها بعض الأسطر أو بعض الكلمات. ترتفع نسبة غرائبية طقوس الكتابة لدى بعضهم، مثل يوكيو مشيما الذي لا يبدع إلا إذا ارتدى لباس المحاربين الساموراي.. و الأكثر غرابة من ذلك يتمثل بعادة دأب عليها الألماني هرمان هيسه الذي كان يقضي أسابيع في الغابة عارياً على أساس أنه يتوحّد مع الأرض الأم مستلهماً منها الأفكار. |
|