تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


في رحيل الناقد التشكيلي طارق الشريف..كان الأكثر انفتاحاً على ثقافة فنون العصـــــــــــــــــر

ثقافـــــــة
الأحد 10-3-2013
 أديب مخزوم

خسرت الاوساط الفنية والثقافية السورية والعربية الناقد التشكيلي طارق الشريف، الذي عرفته الحياة الفنية ومنذ اكثر من اربعة عقود كمؤلف لعدة كتب نقدية وفنية، وكرئيس سابق لتحرير مجلة الحياة التشكيلية الصادرة عن وزارة الثقافة السورية،

منذ صدور عددها الأول. وشغل مركز مدير الفنون الجميلة في وزارة الثقافة لسنوات طويلة وفي فترة الازدهار الثقافي والفني.‏‏‏

‏‏

ففي كتابه عشرون فنانا من سورية الصادر ضمن منشورات وزارة الثقافة عام 1972 كان جدياً في اختيار أسماء فنية هامة وبارزة، ساهمت في تسجيل الانعطافات الفنية الكبرى،منذ الاربعينات من الكلاسيكية والتسجيلية والواقعية في البدايات، الى الانطباعية والتعبيرية والتجريدية،وما تفرع عنها من اتجاهات وتيارات حديثة ومعاصرة، حيث تناول بالدراسة والتحليل مسيرة كل تجربة فنية على حدة، رغم تغييبه أسماء هامة جداً، من أمثال ميشيل كرشة ومحمود جلال وناظم الجعفري ومروان قصاب باشي وغيرهم،كما أنه لم يعتمد التسلسل العمري والزمني، فنراه يضع الفنان والناقد اسعد عرابي في الترتيب الرابع، بالرغم من انه الأصغر سناً بين العشرين فناناً الذين اختارهم لكتابه، كما وضع عن غير حق فنانين اصغر عمراً وأقل موهبة وتأثيراً، قبل لؤي كيالي وفاتح المدرس وسواهما، ووضع خلال عام 1974نصوص كتاب عن الفنان الراحل نعيم اسماعيل تحت عنوان: قصة في لوحات. وفي عام 1975 تناول في كتابه الثاني الصادر عن وزارة الثقافة، مسيرة الفنان الفرنسي الشهير بول سيزان الأب الروحي لكل المدارس الفنية الحديثة. أما كتابه الفن واللافن فقد صدرعن منشورات اتحاد الكتاب العرب عام 1983 وركز فيه لإظهار مأزق الفنون المعاصرة وازماتها المتفاقمة. وأصدر خلال عام 1990 ضمن سلسلة أعلام الفن التشكيلي، الصادرة عن وزارة الثقافة، كتابه الثاني عن الفنان الراحل نعيم اسماعيل تحت عنوان: نعيم اسماعيل - فن حديث بروح عربية. وفي عام 1991 صدر عن وزارة الثقافة وضمن سلسلة كتب أعلام الفن التشكيلي كتابه فاتح المدرس: فن حديث بروح تعبيرية.‏‏‏

ثم وضع خلال عام 1998 مقدمة لكتاب: الفن التشكيلي المعاصر في سورية الصادر عن غاليري اتاسي في دمشق، كما كتب نصوص كتاب خمسة فنانين من سورية الصادر عن صالة دمشق. وكان آخر كتبه عن الفنان الراحل لؤي كيالي، الصادر عن الهيئة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008.‏‏‏

ولقد شكل كتابه عن الفنان الفرنسي الشهير بول سيزان (1839-1906) الصادر عن وزارة الثقافة المدخل بالنسبة لنا في الثمانينات، للتعرف على انه الأب الروحي لكل المدارس الفنية الحديثة،التي جاءت من بعده في مدرسة باريس، ولقد وضح لنا طارق الشريف منذ مطلع حداثتنا،وبالرسوم التوضيحية كيف كان يؤمن دائماً بضرورة وجود لطخات لونية في لوحاته، تتبع ايقاعات الزوايا والمكعبات وكيف مهد الطريق أمام بيكاسو وبراك، وهما من أوائل الفنانين التكعيبيين في الفن الحديث, وكيف كان من أكثر المساهمين بانطلاقة الاتجاه التكعيبي، في مدرسة باريس في العقد الأول من القرن العشرين.‏‏‏

وكيف اصبحت المكعبات، في لوحاته،مستقلة عن معطيات المشهد الموجود في الواقع، وبطريقة لم تكن مألوفة عند الفنانين الآخرين، ولذلك كان الأكثر ثورية وانقلابية وعرضة للنقد والسخرية، وكان ينظر إليه كفنان سيء في التعامل مع الخط واللون، وكانت لوحاته تثير موجة عارمة من السخرية والاستياء والسخط، ليس لدى الجمهور فحسب، وإنما لدى الفنانين والنقاد ايضا.‏‏‏

فالتفاحة على سبيل المثال في لوحات سيزان، تبدو صلبة ولها وجود مادي مستقل عن رؤيتنا لها. ولذلك حقق الفن الحديث مع سيزان، خطوته الأولى نحو المادة الحقيقة، المادة الموضوعية الموجودة في جوهر الأشياء الرسم في الهواء الطلق، وهذه المفاهيم الجمالية الانقلابية يوضحها طارق الشريف في كتابه.‏‏‏

إن المسعى العظيم لسيزان كان في أنه دفع التفاحة بعيداً عنه. ليدعها تحيا بنفسها، إن هذا العمل هو أول علامة حقيقية قام بها الانسان منذ بضعة آلاف من السنين، لأن الإنسان لآلاف السنين كان مشغولاً بمسألة ذهنية لا تتغير، وهي إنكار وجود المادة، والبرهنة على أن المادة هي شكل من الروح فقط، ففي خطواته الفنية الأكثر ثورية، كان سيزان يعلن انشقاقه وتمرده، على المنظور الضوئي الانطباعي، الذي كان سائدا في باريس، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وكان هدف الفنان الانطباعي الأساسي الرسم في الهواء الطلق،بألوان مباشرة وبدون تخطيط مسبق, ودراسة تبدلات اللون والضوء على الأشياء في ساعات متغيرة من النهار.‏‏‏

هذا الإيمان الراسخ بمادية الطبيعة، وبضرورة ترسيخها في لوحاته، كما يشير الشريف، شجعه على العمل والرسم رغم تجاهل النقاد له، وسخرية الناس من لوحاته. وهكذا اتبع سيزان في لوحاته التأليف الهندسي،باحثاً من خلاله على جوهر الأشياء، بدلاً من إكمال تجربته الانطباعية، التي لا تعترف إلا بما هو مرئي للعين، حيث كان يقوم بتحليل الأشكال الصامتة وعناصر الطبيعة والإنسان،ضمن تأليف يتبع ايقاعات تكوين المكعبات، مبشرا بقدوم الاتجاه التكعيبي.‏‏‏

وقد توصل فيما بعد إلى ابتكار اسلوبه المميز، الذي كان يريد من أن يمنح المتانة للانطباعية، من خلال تركيزه لإظهار التشكيلات الهندسية (المكعبات والزوايا والخطوط المستقيمة في فضائية الاشكال التي كان يرسمها).‏‏‏

وفي كتابه عن الفنان الراحل فاتح المدرس ركز لاعادة قراءة لوحاته برؤية معاصرة، فالمدرس عاش فصول التحولات الفنية الكبرى منذ المرحلة الممهدة للاستقلال، ويمكن اعتباره من أكثر فناني مرحلة الستينات جرأة ومغامرة، حيث كان سباقاً في اعتماد اللمسات اللونية الأكثر عفوية في تلك المرحلة، والتي شكلت ثورة حقيقية على المفاهيم التشكيلية التي كانت سائدة عندنا في تجارب رفاقه الفنانين.‏‏‏

فقد كان يستعرض تلك العلاقة الحميمية بين اللون والوهج والخط والحركة، ليكشف أمامنا هاجس ارتباطه بالأرض والإنسان عبر رموز المرأة الريفية والطبيعة المحلية والتاريخ الحضاري العريق، وكان يقوم بتنويع المفردات التشكيلية ضمن هاجس إبراز التضاد بين الكثافة والوهج، وبين السكون والحركة، فاللمسة اللونية المتحررة في لوحاته هي منطلق للارتباط بتيارات التشكيل العالمي المعاصر، بينما تظهر رموز التاريخ والفولكلور السوري كأنها مشروع دعوة للعودة إلى الينابيع الحضارية الحية التي اكتسبتها الأرض السورية عبر آلاف السنين، فالصفة الغالبة على لوحاته تكمن في البحث عن حداثة لتشكيل يتواصل مع التراث والبيئة والحياة.‏‏‏

ومن هنا حمل كتاب طارق الشريف عنه عنوان: فن حديث بروح تعبيرية فالرموز والأشكال تطل على المشاهد في لوحاته، بتعبيرية بارزة، حيث كان يغوص في اللمسة المتحررة، التي يأخذنا إليها عبر تلك الحركة العاطفية التي تهتم بمتابعة الانفعالات والرؤى وتمتد إلى العناصر التشكيلية الأكثر تمثيلاً لشخصيته والأكثر طموحاً في إطلاق الأشكال والرموز المحلية نحو التبسيط الشكلي الطفولي.‏‏‏

ويشيرالراحل طارق الشريف في كتابه عن فاتح المدرس أن مدلولات التاريخ السوري القديم والإشارات المحلية، تبرز كهاجس رئيسي في معظم أعماله، وهي تفسر في النهاية خطه التشكيلي، في إيجاد علاقات تاريخية وبيئية لعلاقة الماضي بالحاضر وبالحداثة المتداولة في أكثر من عاصمة فنية.‏‏‏

ولا يجوز الحديث عن طارق الشريف - الناقد دون الاشارة الى انه تخصص في العلوم الفلسفية، ولم يدرس الفنون الجميلة، دراسة اكاديمية، الشيء الذي يقدم الدليل القاطع، على ان الدراسة لوحدها لا تصنع ناقدا، ولقد كان يؤكد في قراءاته لأعمال الفنانين،على أهمية العامل النفسي الداخلي في بناء العمل الفني الحديث، أي أنه كان يمارس التنظير ليفسر معالم هذا الهاجس السايكولوجي - الفلسفي الذي يسكن خطواته بكتابات واجتهادات جمالية.‏‏‏

فقد سعى في كتاباته للخروج من متاهات القراءات الوصفية التي كانت سائدة في البدايات، وكان بمثابة الزاهد المأخوذ ببريق الإضاءة العصرية التي ساعدت على تحقيق الانفلات من إطار الكتابات السطحية، ومن بعض قيود الوصف الأدبي المتوارث من الكتابات الإنشائية العابرة.‏‏‏

وفي كتابيه اللذين وضعهما عن تجربة الفنان الراحل نعيم اسماعيل ركز طارق الشريف لاظهار الملامح الزخرفية، ولهذا حمل كتابه الثاني عنوان: نعيم اسماعيل - فن حديث بروح عربية، من منطلق ان فناننا الراحل اتجه بمواضيع لوحاته لابراز روح الزخرفة العربية، مع المحافظة على إظهار ملامح الأشكال الإنسانية والنباتية والحيوانية والمعمارية ضمن رؤية فنية متطورة، تتراوح بين التشخيص والتجريد، دون أن يكون هناك فواصل أو حدود بين الشكل الطبيعي المبسط وبين التكوين التجريدي الزخرفي. وبذلك قدم تكوينات تشكيلية تتعامل مع الزخرفة العربية على أنها غير جامدة أو ثابتة وبالتالي يمكن تبسيطها واختزالها بحيث تستجيب للرؤى التكوينية والتلوينية الأوروبية الحديثة. وبذلك أبرز حيوية الزخرفة العربية ومرونتها وقدرتها على ترويض وتوليف التكاوين والعناصر الواقعية المختلفة، ضمن رؤية فنية غربية وشرقية في آن واحد.‏‏‏

فاعماله تميزت بشاعرية المشهد الريفي القادم من ايحاءات الاحساس المتواصل بالبنى الزخرفية العربية, التي بقيت مطبوعة في مخيلته، وظاهرة في لوحاته حتى لحظة وفاته. ووضح طارق الشريف للقراء، كيف لعبت البنى الزخرفية في لوحاته دورها الأساسي في تحريف الاشكال، وكيف أصبحت مدخلاً لافكار جمالية خلاقة تتعاطى مع المساحة البيضاء كلون وتكوين ومشاعر. مع التركيزلاظهار الضربات التلقائية للون داخل المساحة، واعادة صياغة المشهد الريفي الحالم, من خلال الحفاظ على جو لوني شاعري وغنائي احياناً, وتأليفات توحي بالهندسي وبالبناء المتماسك‏‏‏

وفي كتابه الأخير عن الفنان الراحل لؤي كيالي، والذي جاء في اطار احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية ركز لاظهار هاجس الوحدة والحزن الذي كان صديق عذاب وأزمات لؤي كيالي، اذ أضحى الفن رفيقه الوحيد، وبعده عن الناس هوسه وراحته الدائمة، وصولا الى حادثة احتراقه ورحيله في نهاية عام 1978، متأثراً بحروق أصابته وهو في سريره، وهذه الحادثة زادت من أحزمة البؤس في حياته ومماته. ووضح من خلال لوحاته المنشورة كيف كان يرسم المعاناة الإنسانية، في لوحات الطفولة والوجوه والأمومة، التي عكس من خلالها مأساة كاملة مشبعة بالحزن والتوتر والقتامة والتمزق الداخلي، مع التركيز لإظهار الجانب التقني الذي يتناسب مع المعاناة الحياتية السوداوية التي غلفت حياته ورحيله المأساوي. ولقد قدم لوحات الزهور كعنصر مناقض لحالات البؤس والعذاب والتشرد، كأنه من خلال تصوير الزهور، كان يريد إعطاء المشاهد فسحة أمل تنشله، ولو للحظات من دوامة القلق والمعاناة والتوتر والاضطراب.‏‏‏

facebook.com/adib.makhzoum‏‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية