|
مراسلون وتحقيقات
إذ لا تكاد تمر بضعة أيام أو أسابيع إلا ويعلن عن كنز أثري هنا وآخر هناك, وكانت هذه المكتشفات قد شجعت على تواصل التنقيبات من جانب فرق البحث الأثري التي لم يهدأ عملها منذ عقود من الزمن. وهذه الفرق منها ما يعود إلى مديريات المتاحف والآثار التي تقوم على خبرات وكفاءات محلية, ومنها ما يعود إلى فرق تطوعت وجاءت من أكثر من بلد أوروبي انطلاقاً من دراسات يجريها هذا الباحث أو ذاك إلى جانب بعثات لطلاب يدرسون علم الآثار واختاروا سورية للقيام بجولات عمل ميدانية تعزز دراساتهم وأبحاثهم. غير أن ما تشير له دروس العقود الماضية, أن هذه المكتشفات الأثرية لم توظف الآلاف منها بصورة مثلى, فهي تكتشف اليوم ويتم الاحتفاء بها في بعض المنابر الاعلامية, ومن ثم تذهب إلى ساحة النسيان ولا يقوم أحد على ذكرها. ومثل هذا التعاطي مع كنوزها الأثرية يعني وببساطة أن ليس هناك من يقدر حقيقة ما تعنيه من قيمة ثقافية وحضارية وحتى سياحية, وفي هذه الزاوية لن أكرر ما سبق وأتيت على ذكره في مرات سابقة حول ما يحيط أوابدنا الاثرية من اهمال وتعديات وسرقات. وإنما سنتوقف عند نقطتين أساسيتين أولهما, عدم ترميم وصيانة الآثار بعد اكتشافها, وثانيهما: غياب الاستثمار والتوظيف السياحي. وفيما خص الترميم والصيانة, فإنه يمكن القول ومن غير تردد, إن غالبية المكتشفات الأثرية تغيب عن ساحتها أعمال الصيانة والترميم, وهو الأمر الذي يجعلها عرضة للتشويه ولفقدان ملامحها الأساسية وهويتها التاريخية, خاصة تلك المواقع الأثرية المفتوحة على الصحراء أو على مناطق شديدة التقلبات المناخية. فمن يتوجه اليوم وفي أي وقت من الأوقات إلى بعض المواقع الأثرية سوف يلحظ ومن غير عناء, أن غالبية هذه المواقع تبعث على الأسى لشدة ما يحيطها من إهمال وعدم عناية واهتمام. حتى أن البعض من الزوار العابرين وكنتيجة للجهل فيما تعنيه هذه الحجارة والأوابد من قيمة, فإن هذا البعض يقوم بالعبث بها والتعاطي معها كما لو كانت مجرد حجارة عادية تتشابه مع ما هو قائم في المقالع الصخرية التي تستثمر في مشروعات تشييد الأبنية السكنية. كما أن البعض الآخر من المراهقين واليافعين, لا يجدون مكاناً مناسباً للعبث سوى على هذه الحجارة من خلال القيام بحفر بعض الأسماء التي تدلل على أنه كان قد زار هذا الموقع خلال وقت محدد. وما أكثر قلوب الحب التي ترسم وبأصناف عديدة من الأحبار, حتى لتبدو بعض جدران هذه المواقع أشبه ب (سبورة) المدرسة التي يتم من خلالها اعطاء الدروس للطلاب. كثيرة هي مظاهر العبث التي تتعرض لها المواقع الأثرية, وهي إذا كانت قد أخذت أنماطاً محددة من جانب الذين يقصدونها في الرحلات وغير الرحلات, فإن هذه الانماط تكاد لا تذكر قياساً بطرائق العبث والتعديات التي تطولها من جانب بعض الجهات المعنية أو من جانب جهات خاصة. وسبق وأن اتينا في مقالات سابقة على أمثلة لا حصر لها, بدءاً من التعدي الذي تعرضت له قاعة العرش في قلعة حلب, وليس انتهاء بما تواجهه مدينة عمريت الأثرية من اهمال. باعتقادنا أنه آن الأوان كي تصحو مديرية الآثار والمتاحف من غفوتها الطويلة, وعليها إحداث تبدلات في طرائق وأساليب التعاطي مع المواقع الأثرية.. طبعاً نحن ندرك أنها وبسبب هذا الزخم الكبير والمستمر في المكتشفات الأثرية, قد يتعذر توفر الموازنات المالية المطلوبة أو التي من شأنها تغطية كامل النفقات. لكن ومع ذلك, فإن على الجهات نفسها, السعي ما أمكن لانفاق ما يتوفر لديها من موازنات وفقاً لسلم الأولويات, وفي حال العودة إلى سنوات ماضية والتوقف عند المطارح التي يتم من خلالها صرف هذه الموازنات. وسوف نلحظ أن الغالبية منها تذهب إلى غير المكان الصحيح, وبلغة أدق فهي كانت تبدو على مهمات خارجية وزيارات وأذونات سفر وسواها من مطارح الصرف الأخرى التي تترك أثراً ايجابياً على الكنوز الأثرية. طبعاً نحن لا نقلل من قيمة المشاركة في معارض خارجية للاستفادة من تجارب الآخرين, ولا نرى بأن المشاركة في ندوات علمية أو استقدام الفرق الاستكشافية ليس ضرورياً. وإنما كما سبق وذكرنا-يتعين توظيف هذه الموازنات وفقاً للأولويات, والأولويات يفترض أن تبدأ أولاً من السعي إلى استمرار وتواصل حملات وبرامج الترميم والصيانة للآثار, على أن يعقبها إحداث المتاحف التي من شأنها حفظ هذه الآثار وحمايتها. وباعتقادنا أنه يتعين وفي كل موقع من هذه المدينة أو تلك التي تشهد مكتشفات أثرية زخمة, العمل على تشييد المتاحف و لو كانت على مساحات صغيرة. ذلك أنه ومن دون هذه المتاحف ستبقى الكنوز الأثرية عرضة للعبث والاهمال والتعديات.. وفي هذا السياق يمكن التوقف عند النقطة الثانية التي أشرنا لها وتتعلق في غياب الاستثمار والتوظيف السياحي, فالاستثمار الأمثل للمكتشفات الأثرية يعني -وكما ذكرنا- ضرورة حضور هذه المتاحف, ذلك أن عرض هذه المكتشفات وكما هي على الطبيعة قد يكون أمراً متعذراً لبعض المكتشفات, وبداهة هناك مكتشفات لا تستوجب حضور المتاحف, بقدر ما تتطلب طرائق وأساليب أخرى في العرض. وذلك من خلال تحسين الواقع الخدمي الذي يحيط بها, والعمل على تشجيع قيام المشاريع السياحية من فنادق ومطاعم وأندية وسواها من الخدمات التي تليق بمثل هذه الكنوز, .. ندرك أن مثل هذه التمنيات قد يصعب ترجمتها بين ليلة وضحاها, ولكن علينا أن نبدأ في اتخاذ الخطوة الأولى على أقل تقدير, .. ومن يتوجه اليوم الى بعض عواصم العالم أو حتى الى بعض المدن والبلدات الصغيرة, سوف يلحظ أن مديريات المتاحف والآثار في هذه المدن والعواصم أشادت عشرات وحتى مئات المتاحف مع أن القيمة الأثرية التي تتضمنها هذه المتاحف تكاد لا تذكر قياساً بحقيقة ما هو قائم في بلدنا, سواء لجهة القيمة التاريخية والحضارية,أو الثقافية, ففي الوقت الذي نعثر فيه على بلدان أثرية بأكملها تعود الى بدايات ما قبل الميلاد, ولا نمنح هذه المكتشفات ما يوازيها من قيمة, فإن ما يعرض في بعض متاحف العالم قد لا يعود الى أكثر من مئة أو مئتي سنة, وللدلالة على مثل هذا الكلام فإن بعض المتاحف المحدثة في الغرب, تضم مقتنيات لبعض المشاهير الذين تركوا أثراً فكرياً أو علمياً أو أدبياً وكانوا قد رحلوا عن العالم قبل مئة أو مئتي سنة أو ربما أقل من ذلك, ومن هؤلاء على سبيل المثال (بيتهوفن) و(شيلر) و(موتسارت) الذين قامت الحكومة في تشييد مناطق خاصة بمقتنياتهم وما تركوه من أشياء وأدوات كانوا يقومون باستخدامها... والسؤال متى نصل نحن الى مثل هذا الوعي في تقدير كنوزنا الأثرية?!
رغم ما يواجه المواقع الأثرية من إهمال, ولا تلقى هذه المواقع رعاية مميزة من جانب الجهات المعنية, فإن الآخر الملاحظ خلال الصيف الحالي الذي يكاد يطوي أيامه وأسابيعه الأخيرة, هو إن البعض من المهتمين العاديين في أوساط الرأي العام, بدأ يدرك على ما يبدو أهمية ما يعنيه العمل التطوعي لجهة الاهتمام بالآثار والحفاظ عليها. وهذا الاهتمام الذي بدأت تتشكل نواته من جانب بعض الشبان والشابات وحتى بعض الأطفال, كان من الواضح أن يتكىء أولاً: على حقيقة مفهوم الغيرة على شواهد حضارتنا وأجدادنا وهويتنا الثقافية, ويتكىء ثانياً: على ضرورة تعويض ولو بشكل بسيط بعض المهام التي يفترض أنها منوطة أساساً ببعض الجهات المعنية,.. فخلال الصيف الحالي مثلما ذكرنا- أطلق بعض الشبان والشابات ومن الذين تمكنوا من قطع مسافة غير عادية في التحصيل العلمي والدراسي,أطلق هؤلاء مبادرة وقاموا بتشكيل مجموعة عمل ومن دون رعاية من هذه الجهة الرسمية أو تلك, وهؤلاء وعلى مقياس إمكانياتهم وقدراتهم عقدوا العزم على تقديم ما يمكن تقديمه ودون أن تأخذهم الحسابات في البحث عن مقابل مادي أو معنوي هؤلاء توجهوا وعلى نفقتهم الخاصة إلى مدينة عمريت. ليقدموا لها الاعتذار أولاً عن التجاهل الذي يحيط بها وعن عدم الوفاء لها وما قدمته من حضارة ,.. كل مافعلته أيضاً فرقة العمل هذه, أنها حاولت نفض الغبار عن ملامحها , ومحاولة جمع بعض الحجارة بدل أن تبقى (مشلوحة) بطرق عشوائية وحرصت على عدم رحيلها من موقعها.
فرقة المتطوعين هذه, أخذها الشعور بحسن الانتماء والمسؤولية والوفاء لتاريخ وطن دون أن تقوم بتنظيم الاجتماعات أو تأخذ إذناً من أحد, ذلك أن العمل السليم والقويم ليس بحاجة الى إذن من أي طرف, هذه الفرقة أخذت بهذا الشعور لا أكثر و لا أقل ومن خلال رفع يافطة بسيطة تحمل كلمتين (أنقذوا عمريت). وبغض النظر عن تواضع الأثر الايجابي الذي تركوه من خلال هذا العمل الذي يندرج في إطار الحس بالمسؤولية أولاً وأخيراً, إلا أنه يحقق هدفين أساسيين : الأول: المشاركة الطوعية في الحفاظ على هوية هذه الأوابد, والثاني: التعريف بالقيمة الثقافية والحضارية لهذه الأوابد والاسهام للسعي في توظيفها سياحياً. كما أن هذه المبادرة قد تشجع مستقبلاً على توالد ما يشابهها من فرق تطوعية كي تتوجه الأنظار ليس فقط الى عمريت, وإنما إلى كل موقع أثري لا يلقى الاهتمام الكافي.. وبكل الأحوال : إذا كان هناك البعض من المعنيين لا ينظر الى هذه الكنوز والمواقع الآثرية إلا كونها مجرد حجارة عادية ويأخذه اللهاث خلف مصالحه الخاصة تساوقاً مع ما هو سائد في ثقافة الفساد التي تكاد تتحول الى منهج وسلوك يومي في بعض مؤسساتنا الرسمية, فإن هناك من تأخذه الغيرة من شبان وشابات الوطن على هذه الكنوز, وهؤلاء لن يلهثوا إلا وراء الإبقاء على اسم سورية عالياً والحفاظ على هويتها التاريخية والحضارية . وألف تحية لهؤلاء أو للذين سيبادرون مستقبلاً بمبادرات مشابهة تقود الى ذات الهدف النبيل., marwan ">j@ureach.com |
|