|
ثقافة
وماهو بال المعرفة؟ ربما كان (ابن خلدون), هذا المفكر والفيلسوف العربي الكببر, على حق عندما نبه وأكد في مقدمته الشهيرة إلى (المعنى العام لمفهوم اجتماعية المعرفة), عندما رأى أن ثمة ارتباطا وثيقا بين الثقافة والعمل, وأن الثقافة والمعرفة تتطبع بطبع المناخ الاجتماعي الذي تنطلق منه. لقد ترك لنا ابن خلدون مفهوما عظيما يختص بعلم اجتماع المعرفة, وأسسا لمفاهيم هذا العلم, الذي يمكن لمفكرينا أن يستنيروا به, لابل وأن ينطلقوا منه, بقصد تطويره والإسهام في وضع نظرياته الحديثة بصورة جدية ومعمقة, لا سيما مع وجود إشارات مهمة ودلائل كثيرة تفيد بأن هذا العلم (علم اجتماع المعرفة) أو علم الاجتماع المعرفي, سينال منزلة المظلة المعرفية لكثير من العلوم الإنسانية, سيما في مجالات نظرية التربية, ونظرية الإعلام, ونظرية القيم, وهذا يتطلب بصورة جدية ملحة, إحياء الفكر الفلسفي وتنمية التوجه النوعي والتخصصي, والتخلص من تلك الثنائيات التي تنخر في كيان الثقافة العربية حتى يومنا هذا. ولابد أن ندرك الآن, أن أزمة الفكر الفلسفي العربي, لم تكن لتكون, لولا تدني وانحدار الفكر والعلم معا في مختلف المجتمعات العربية من جهة, وضعف - إذا لم نقل انعدام الطلب - على الفكر الفلسفي ونتاجاته من جهة أخرى. وللمشكلة وجه ٱخر, إذ لايزال عدد لابأس به من العلميين العرب يعتبرون هذا الفكر ضربا من اللغو الأكاديمي, وقد فاتهم حقا, أنه لابديل عن الفلسفة إذا عجز العلم, وكثيرا ماسيعجز العلم عن مواجهة تحديات عصر المعلومات, وهي سمة عصرنا الراهن, وأنه لا ملاذ للعلم إلا الفلسفة, لأنه سيقف حائرا عندما سيدنو باحثا عن مناهل جديدة ينفذ منها إلى أرض بكر, ولن ينفذ إليها إلا بسلطان الفلسفة. إن فكرنا الثقافي - اليوم - يسوده فكر الأدب والنقد الأدبي, وقد نجحت السياسة إلى حد بعيد في تشتيت فكرنا الثقافي, فغاب عن هذا الفكر قضايا عديدة غير التنظير الثقافي, لاسيما التفكير الجدي, في علوم الاقصاد, والاجتماع, واللسانيات والفلسفة والمعلوماتية, وكم يشعر المرء بالمرارة, جراء ذلك الجهد الذي تبذله بعض العقول العرببة المتمكنة, وهي تستهلك طاقاتها في التنظير, كي تقيم من شتات الفكر العربي على مختلف مستوياته, صروحا فلسفية, ونظريات علمية ذات الحد الأدنى من التماسك, بدلا من أن يطوعوا - أسوة بغيرهم - حصاد فكرنا ليصب في مسارات الفكر الإنساني العام. لقد أصبحت الحاجة ملحة, اليوم لجيل جديد من المفكرين والمنظرين والفلاسفة العرب, جيل يستطيع الإجابة عن كل أسئلة عصر المعلومات الذي نعيش تطوراته المتلاحقة, فنحن بحاجة إلى إعادة النظر في جميع مناهج علوم الفلسفة والاجتماع والإعلام واللغات, بشكل يتفق ليشمل الفكر الثقافي واتساع ٱفاقه. ويقفز هنا السؤال المهم عن الثقافة العلمية العربية, فهل وصل العرب إلى تعريف واضح لمصطلح الثقافة العلمية؟ لعلنا نتساءل هذا السؤال المر, مع مفكر عربي كبير هو الدكتور (نبيل علي), لأن الكثير من المثقفين العرب مازالوا إلى يومنا هذا, يختزلون مفاهيم هذه الثقافة, في تبسيط العلوم, وكأنها - الثقافة العلمية - مجرد الإلمام بٱخر إنجازات العلم والتكنولوجيا, حتى أن البعض - على سبيل المثال لا الحصر - يدرج ضمن هذا المفهوم, الإعجاز العلمي للقرٱن الكريم. وتتجلى الثقافة العلمية بصفتها قضية ببعدين.. الأول في ضرورة تثقيف غير العلميين علميا. والثاني يصب في أهمية توعية العلميين ثقافيا. ويفيدنا د. نبيل علي في هذا السياق, إذ أنه يرى «أن الكثير من علمائنا باتوا بحاجة إلى التثقيف العلمي الذي يحررهم من أسر تخصصاتهم الضيقة, ويسد فجوات الفراغ الفكري لديهم». ومن الطبيعي, أن لا يقر العالم العربي بمثل هذا الفراغ, الذي قد يتجه ليملأه بمد نطاق تخصصه, ليجعل منه أشبه مايكون بالأيدولوجيا الشاملة التي سيفسر من خلالها العالم من حوله, وهنا بالضبط يحشرنا في مايمكننا تسميته, بالثقافة الأحادية الأبعاد, بمعنى أننا سنسمع منه إختزالا لكل العالم من حولنا ومشكلاته, من خلال عدد محدد من المقولات والنظريات والمسلمات, وهو مايوقع بنا في فخ السطحية العلمية. وعلى الجانب الآخر, فثمة نقاط مضيئة في هذا السياق لايمكننا إلا أن نلحظها بعين متفائلة.. إذ إن الإعلام العربي بكل مستوياته ووسائله, بات يفرد مساحات واسعة للاهتمام بالثقافة العلمية, وهو مؤشر مبشر بالخير, إذ إن منظومة المجتمع بحاجة ماسة إلى علاقة بنيوية إيجابية وتفاعلية مع منظومات الثقافة فيه, سيما وأنه لم يعد بالإمكان رؤية مجتمع يقطع صلاته بالتكنولوجيا, وقد أخذت هذه العلاقة بين المجتمع والتكنولوجيا, وبمعنى ٱخر الثقافة العلمية, التي أخذت شكل التبادل الفعال, فكما أن للتكنولوجيا دورا حاسما في تشكيل مجتمعها, فإن للمجتمع حق فرز واصطفاء التكنولوجيا التي يحتاجها. ولقد صدق من قال: (إن المجتمع لا تشكله السياحة والاقتصاد بقدر مايشكله نظام التواصل السائد فيه بين الأفراد والجماعات والمؤسسات). وللبحث صلة. |
|