تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مدينة الأدراج

معاً على الطريق
الأربعاء 17-8-2016
أنيسة عبود

قد لا يكون الحديث عن الثقافة حديثاً ممتعاً أوجذّاباً للكثيرين.

حتى البرامج الثقافية على الشاشة لا تؤدي الغرض المطلوب منها لأنها (كما قال لي أحد الإعلاميين) غير جماهيرية.‏‏

والجماهيرية يُقصد منها البرامج الترفيهية والفنية والأبراج والثرثرة عن الموضة والأزياء ومسابقات الغناء.‏‏

لكن لا بُدَّ من الثقافة.. لأنها مقياس من مقاييس رُقي الشعوب وحضارتها وهويتها.. لذلك نجد دائماً الكثير من المتحمّسين والمضحِّين في سبيل الأدب والمعرفة.. على الرغم من أنهم يدركون أن الأدب لا يُطعم خبزاً وكأني بهم يقولون : لكنه يُطعم جمالاً ومعرفةً وتطوراً.‏‏

من هنا.. وعلى الرغم من الحرب الضارية والدماء الجارية لم تتوقف الكثير من المدن والبلدات عن استضافة الأدباء والشعراء لإقامة الندوات والمهرجانات واللقاءات الثقافية.. وفي سبيل ذلك لا بد من متبرّع جسور مؤمِن بالكلمة يقوم بدعوة الكاتب واستضافته وربما تحمُّل نفقات ذهابه وإيابه، في حال تأخرت وزارة الثقافة عن ذلك – وللحق هي تتأخر.. ولا تقدم ما يحفظ ماء وجه الكلمة ولا ما يليق بها من تكريم لدورها وأهميتها.‏‏

بالتأكيد نحن في حرب.. والحرب أخذت منّا الكثير.. ولكن قبل الحرب بسنوات توقف مهرجان المحبة الذي كان علامة مضيئة في الأدب والثقافة، ويجمع الكُتَّاب من كل الوطن العربي.. وقبل الحرب أيضاً لم تعد الجامعات تقوم بندواتها ولا أمسياتها المميزة .. حتى المراكز التي أُقيمت من أجل الثقافة.. ومن أجل الكلمة.. والتي تأخذ أهميتها ووجودها من الكتاب ومن الكاتب تعطَّل دورها ولم تعُد بذات الفعالية المجدية.‏‏

لهذا السبب كنت أرفض تلبية دعوات كثيرة للمشاركات الثقافية حتى ولو كان اتحاد الكتَّاب العرب هو الذي يقوم بها لأنه يتعامل مع عضو الاتحاد كموظف في مؤسسته وليس كمبُدع قد يُغيّر في نفوس القُرّاء وفي أفكارهم ورؤاهم المعرفية.‏‏

لكن.. أخيراً لبّيت دعوة مرمريتا.. دعوة ماطلت فيها، وسوّفت.. لشعور منّي أن الناس لا تريد أن تسمع.. ربما هي تريد أن تأكل فقط.. غير أن إصرار بعض أهل مرمريتا مثل السيد إبراهيم عبّود وعائدة سلامة ورئيسة المركز وكثيرين دفعني لتلبية الدعوة..‏‏

كانت هي المرة الأولى التي أزور فيها هذه البلدة الجميلة التي سميتها بلدة الأدراج والورد والحجارة البيض كقلوب أهلها الرائعين.‏‏

لأعترف ذهبت على مَضَض في البداية وذلك التزاماً منّي بالوعد فقط.. فأنا مثل كل السوريين أشعر أن دمنا هو الذي يكتب.. وفراق الأحبّة هو الذي يستحق الحضور، وقلت ربما يكفي أن نسطّر أوجاعنا عبر الكتب والجرائد.. إلا أني تراجعت عن فكرتي عندما حضرت، ورأيت الأسطحة القرميدية الحمراء التي تذكرك بفيروز والتي تمدُّّ يديها نحو الزائر مُرحِّبة ومُهلِّلة.. ليكتمل المشهد بمقام السيدة العذراء الشامخة على رابية عالية تدور وتلتف حول البلدة كحارس أبدي لا ينام طالما أدراجها سهرانة ترنو إلى نوافذها وأبوابها وتستمع إلى الأجراس تقرع تضرُّعاً للسلام والأمان لأُمِّنا سورية.‏‏

في مرمريتا.. ليس المهم أن تقرأ شعراً أونثراً.. المهم أن تلتقي بأهلها الطيبين وتشرب قهوتهم على الشرفات الفسيحة، فتحتار أيهما أكثر اتساعاً وشموخاً أهلها أم محبتها للضيف أم أُمَّهات الشهداء فيها ؟‏‏

قبل أن أغادر المدينة قطفت من ياسمينها وشربت من مائها وأنا أقول للعزيزة عايدة.. لا أريد أن أشرب مياه معلّبة.. سأشرب من ماء مرمريتا كي أعود إليها مرة أخرى –كما تقول الأسطورة- فألتقي بمقام العذراء، حيث ما زال لدي كلام كثير لم أقله لها وما زال لدي بوح شفيف لم يسمح الوقت لأنثره على عتباتها.‏‏

وكررت مقولتي التي اؤمن بها – للأماكن ذاكرة – وإلا لماذا نبكي عليها حين نتذكرها.. ولماذا تبكي هي علينا وتنادينا لنعود..؟ وربما لهذا السبب تحمّلت الأديبة الرقيقة (أمل اليونس) عناء الأدراج وروعتها ونحن نترافق إلى مرمريتا في مشوار الكلمة والمعرفة والسهر مع الشعر والأقمار الصاعدة من وديانها النازلة في أحضاننا.‏‏

إن روعة اللقاء والوداع الحزين أعاداني إلى أماكن أخرى في بلدي مازالت وداعاتها حارّة في القلب مثل دير الزور والحسكة ونهر الخابور والفرات العظيم وسمكه اللذيذ الذي مشى معي حتى البحر وعندما غادرني بكينا معاً أنا وهو والكلمات وجسور حلب الصامدة.‏‏

نعم.. هي الكلمات لها روح وهي الأماكن أيضاً لها مشاعر وهَمس وشوق.‏‏

وهي.. نحن.. المستمرون نكتب على صفحات الذاكرة.. لن ننسى هكذا نحن السوريون أبناء الأبجدية الخالدة.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية