|
اقتصاديات مثلاً قد يرى البعض في الإنفاق الحكومي على التنمية الريفية نوعاً من الانحياز الاجتماعي لفقراء الريف, وخاصة عندما لا تفي الموارد المتاحة لتنمية المدن الكبرى في البلد المعني إلى مستوى مثيلاتها في الدول الصناعية المتقدمة أو في دول ذات موارد مالية كبيرة. كأن يقارن سكان العاصمة الموريتانية نواكشوط بعاصمة الإمارات العربية أبو ظبي أو بدبي!! من الطبيعي أن تكون هناك أولويات في الانفاق بين الاقتصادي وبين الاجتماعي, بين الأساسي وبين الثانوي وفي الحقيقة عندما تكون المقارنة بين الاستثمار في الأنشطة المولدة للدخل ولفرص العمل وبين المستهلكة للدخل المتولد, فإن الأولوية تعطى للأنشطة الأولى ما لم يكن نقص الاستهلاك سبباً في عرقلة الإنتاج. ولكن عندما تكون دخول أصحاب الأجور متدنية ودخول الفلاحين بائسة من الخطأ عد رفع مستوى الأجور على حساب زيادة الضرائب أو تقديم الدعم للمنتجات الزراعية من موارد الخزينة انحيازاً للطبقات الكادحة على حساب الفئات الميسورة, أو اعتبار الانفاق في هذه الوجوه إنفاقاً اجتماعياً على حساب الجانب الاقتصادي. إن زيادة القدرة الشرائية لذوي الدخل المحدود وللفلاحين في الأرياف ذات مردود اقتصادي كبير, حيث تشكل حافزاً كبيراً لأصحاب الأموال إلى الاستثمار سعياً لتلبية الطلب وزيادة أرباحهم فيزداد النشاط الاقتصادي ويرتفع الناتج القومي وتتحسن الأوضاع الاجتماعية والسياسية وهكذا يكون من الضروري تحديد العلاقة بين الاقتصادي والاجتماعي. كما يكون ضرورياً أيضاً تعرف انعكاس أحدهما على الآخر من أجل تحديد الأولويات بعيداً عن الرغبات فمشكلة علم الاقتصاد التي لم تجد طريقها للحل بعد, وقد لا تجد حلاً لها في المستقبل أيضاً, تتمثل في عدم كفاية الموارد, مهما اتسعت لأنها محدودة, لتلبية الحاجات المتزايدة, لأنها غير محدودة ومتزايدة مع الزمن. وعقلانية علم الاقتصاد تكون في حسن استخدام الموارد لإشباع الحاجات حسب أولويات تسمح بزيادة الموارد مع الزمن بما يلبي إشباع المزيد من الحاجات مستقبلاً, فما ينطبق على اقتصاد الأسرة ينطبق أيضاً على الاقتصاد الوطني. فليس من المعقول أن تفكر أسرة بالعمل على إشباع حاجاتها من السياحة والاصطياف على حساب كسوة أفرادها وتغذيتهم ثم كم من الأسر تقلل من انفاقها على حاجات كمالية تحتاجها آنياً لتكوين مدخرات لاستثمارها من أجل زيادة دخلها بما يسمح لها بزيادة الاستهلاك مستقبلاً إذاً يخضع توزيع الدخل المتاح في اقتصاد الأسرة, كما في الاقتصاد الوطني, إلى حجم الدخل من جهة, وإلى أولوية إشباع الحاجات, من جهة أخرى. وطبعاً ليس كل إنفاق في الجانب الاقتصادي يخدم بالضرورة الجانب الاجتماعي في حين أن كل ما من شأنه خدمة الجانب الاجتماعي ينعكس إيجاباً على النمو الاقتصادي. صحيح أن عدم مراعاة الجانب الاجتماعي قد لا ينعكس في المدة القصيرة على النمو الاقتصادي ولكنه في المدة الطويلة سيعرقل عملية النمو هذا ما كان يسبب الأزمات الاقتصادية في اقتصادات السوق ويعرقل استمرارية النمو قبل الأخذ بالوصفات الكينزية وزيادة دور الدولة في الحياة الاقتصادية. لكن يمكن التأكيد أن كل ما يخدم الجانب الاجتماعي (توفير الخدمات الاجتماعية من صحة وتعليم وثقافة إلخ) ينعكس إيجاباً على النمو الاقتصادي في الأمدين القصير والطويل. إن توفير هذه الخدمات وتمكين قوة العمل من الحصول عليها سواء أكانت مدفوعة (بزيادة أجور العاملين) أم كانت مجانية تتولاها الدولة على حساب مساهمات قطاع الأعمال في الضرائب التي تعبئها الدولة في الموازنة وتنفقها في تأمين الخدمات للعاملين وعائلاتهم, سيؤدي بالضرورة إلى تحقيق مكاسب اقتصادية فالانفاق على الصحة يؤدي إلى تقليل المرض وتخفيض نسبة الغياب عن العمل من جهة, كما يؤدي إلى تحسين صحة العامل ورفع إنتاجية عمله من جهة أخرى. كما أكد التاريخ الاقتصادي لدول جنوب شرق آسيا أن الانفاق على التربية والتعليم ومحو الأمية كانا العامل الرئيس في النمو الاقتصادي الذي تحقق في هذه البلدان لكن المهم ليس في توفير الخدمات الاجتماعية فقط بل في تمكين العمال المنتجين من الوصول إليها. عندما تستثمر الدولة في مجال الصحة والتعليم والنقل والثقافة ومنشآت الاستجمام وتمكين قوة العمل من الاستفادة منها فهي (الدولة) لا تنفق اجتماعياً بل إنها تستثمر إنتاجياً لأن هذا الانفاق الاجتماعي هو استثمار في الرأسمال البشري وينعكس على النمو الاقتصادي, من هنا فإن السير في اقتصاد السوق الاجتماعي, وتركيز الانفاق العام على تطوير البنية التحتية وتوفير الخدمات وتمكين كل المواطنين من الانتفاع بها سواء برفع مستوى دخولهم لدفع أثمانها أم بتقديمها مجاناً, يقود إلى تحسين الأداء الاقتصادي والأفضل كما تقول الاقتصادية البريطانية جوان روبنسون يكون في زيادة تنقيد الاقتصاد الوطني أي بتوزيع دخول نقدية عالية وتأدية أثمان الخدمات نقداً. المشكلة إذاً تكون في حسن توزيع الدخل القومي بحيث يمكن زيادة الإنتاج وتوفير القدرة الشرائية لدى المستهلكين. في بحث أجريناه حول التنمية الريفية بين المردود الاقتصادي والبعد الاجتماعي توصلنا إلى نتيجة أن تنمية الريف استثمار اقتصادي عالي المردود يخدم النمو الاقتصادي (زيادة الإنتاج الزراعي, رفع القدرة الشرائية للمزارعين بما يزيد في الطلب الفعال وينشط الدورة الاقتصادية) كما يسرع في التطور الاجتماعي في الأرياف (نشر الثقافة, القضاء على التقاليد البالية وزيادة الوعي بأهمية العلاقات النقدية في الحياة الريفية) إذاً لا المشكلة ولا الحل في رفع الشعار بل الحل في توضيح المفاهيم واعتماد السياسات المؤاتية للسير في اقتصاد السوق الاجتماعي. عندما يتحدد المفهوم (مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي) وتتوافق عليه كل فئات المجتمع يمكن أن نصل إلى نتائج مرضية جداً. فجميع الدول الصناعية المتقدمة, القديم منها والحديث, لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بطريق شكل ما من أشكال الاقتصاد الاجتماعي. كما أنها لم تتجنب الوقوع في الأزمات الاقتصادية المدمرة إلا بمراعاة شروط تحقيق الأمن الاجتماعي ولكن ليس كل إنفاق على الحاجات الاجتماعية يندرج تحت مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي كما يحلو للبعض أن يكرره. |
|