تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


خيال مقصوص الجناح

معاً على الطريق
الخميس 2-1-2014
لينا كيلاني

سيدة أجنبية رقيقة تعيش في بلد بعيد عن وطنها حيث تركت ابنتها الوحيدة مع حفيدتها.. زرتها ليلة الميلاد في بيتها..

بيت دافئ وأنيق جمع الأصدقاء بكثير من الود.. وبعد وقت قصير، والحديث يشتعل بين الزائرين ويتفرع في كل الاتجاهات كأغصان شجرة في غابة سحبتني من يدي الى ركن بعيد، وقالت لي انتظريني للحظة حتى أعود اليك.. وقفت وأنا أتأمل كل زوايا البيت فأجدها تعبر عن ذوق خاص له نكهة الغرب ولمسة الشرق بتمازج منسجم.. عادت إليّ وهي تحمل دفتراً كبير الحجم.. وضعته بصمت بين يدي مبتسمة، ولما التقطت السؤال من عيني أن: ما هذا؟.. قالت بهدوء: إنه سري الصغير الذي لم أطلع عليه أحداً بعد. أطعتها وفتحت الدفتر لأرى.. وجدت صفحات تزينها رسوم زهور، وفراشات، ونجمات، وبينها سطور كتبت بلغة أجنبية.. سألتها: ما هذا يا ليتسا؟ فقالت: إنه الدفتر الذي سأهديه لحفيدتي الوحيدة.. كتبت فيه ما حفظته من قصص الخيال، وما اخترته من قصص الأطفال، وما نبت من أساطير في موطني.. وفي كل صفحة رسم ينسجم مع الكلمات ويعبر عنها.‏

ابتهجت وأنا أتذكر دفاتر طفولتي.. لكني استغربت وتساءلت عن السبب الذي دفعها لهذا فقالت: أريد لحفيدتي ألا تخرج الى الحياة كعصفور مقصوص الجناح.. وقد سلبتها الشاشات الحديثة قدرتها على الخيال.. إنهم يصادرون خيال أطفالنا بكم ألعابهم الإلكترونية، وأفلامهم الخيالية وبالبعد الثالث أيضاً حتى تتشخص أمام العيون من خلال الإحساس وكأنها الحقيقة.. أريد لحفيدتي أن تتعرف الى الكلمة المقروءة وتعيش معها، وأن ترسم عوالمها بخيالها كما تشاء.‏

وتعود بي كلماتها الى طفولتي التي كانت ملونة بكل ألوان البهجة والفرح.. ثم تقفز الى ذهني صورة (تاج محل) في الهند.. وأتذكر كيف كنت أحلم وأنا مبهورة الأنفاس بأن أزور ذلك المكان.. لكنني لحظة وصولي اليه وجدت نفسي أقف أمام بناء حجري ضخم، وأبيض، وجميل لكنه ليس ذلك الذي رأيته بعين خيالي.‏

وأتساءل هل فعلاً تصادر هذه الوسائل المعاصرة خيالنا أم أنها تعززه؟ سؤال ينفتح على أكثر من إجابة.. إذ لعلها تفعل الأمر ونقيضه بآن معاً.. ألم تجعلنا الآلات الحاسبة أكثر اعتماداً عليها بدلاً من عقولنا؟ وكأن هذه العقول بدأت تفقد مرونتها طالما أن الحلول والبدائل أصبحت متوفرة، وبسهولة يمكن العثور عليها دون عناء. وهذا بالتالي يضعنا في مواجهة مع حقائق الأشياء إذ أن الآخر الذي يصدّر أو يدفع بخياله إلينا مازال يقبض على تلك المنحة الإلهية ويستلهم منها.. فهل حصّن نفسه جيداً فلم يُستلب خياله منه؟ أم أنه استفاد مما جاء به غيره فقفز فوقه؟.. أسئلة تزاحمت في فكري.. وأنا ما أزال أقلّب صفحات الدفتر.. دون أن أعثر على جواب حاسم.‏

لكنني فجأة التفت اليها، وقلت لها وقد استبدت بي مشاعر الطفولة بشكل مباغت: أريد دفتراً مثله تزينه الفراشات، والغيمات مع الكلمات. فامتدت يدها الى غطاء طاولة بديع التصميم، وقالت لي: انظري الى هذا الغطاء.. لقد صممته، ونسجته بيدي، ومع كل غرزة كنت أستحضر كلمة، وأستلهم من عبارة مما قرأت، ومما نسجته في خيالي.‏

أبهرتني تلك السيدة وهي تسعى من وراء البحار لأن تبعد حفيدتها عن شاشة التلفزيون، أو الكمبيوتر، أو الهاتف الذكي إلا من وقت قصير.. حتى لا تفقد الصغيرة التماعة الخيال فلا تضيع بين التماعات الشاشات.‏

ومع انطفاء الشموع.. وزينة شجرة الميلاد غادرتها.. غادرت ليتسا وأنا أحلم بدفتر منسوج بخيوط الكلمات، وملون بألوان الطفولة والخيال.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية