|
ثقافة
كلما خاف من شيء حاول التقرب منه, وإضفاء صفة المعبود عليه, فكانت أول عملية خضوع للإنسان حين اخترع آلهة ليكون أمامها عبداً يعلن ولاءه وإخلاصه وتبعيته لإرادتها, وخشية غضبها اخترع ما تخيل أنه واسطة لاسترضائها واستبعاد غضبها وشرها أيضاً. ربما لم يكن الإنسان- ومازال كذلك- ليطيق التجريد والمجردات, ولم يكن ليطيق المعنى المنفلت والمنفلش الذي لا يستطيع محاصرته بلغة أو تعبير.. بتفسير أو تأويل أو تصوير... لماذا؟ ببساطة لأنه يقف وحيداً أعزل عاجزاً عن الإمساك بما حوله.. هو لا يطيق شيئاً بلا صورة له.. بلا وجه.. فدماغ الإنسان اعتاد المعرفة عبر الصورة (كل شيء ههنا ليس هو الحقيقة بل صورة عنها). انطلاقاً من الخوف ورغبة باتقاء الخطر ذهب لاسترضاء ظواهر الطبيعة والآلهة عبر تقديم ما يملكه لها.. وفي زمن ما شعر ربما أن ما من شيء سيرضيها سوى الدم! فكانت القرابين البشرية. يُعرّف القربان على أنه «الهبة التي كان الإنسان القديم يقدمها للإله- أو للكائنات الخفية- ليهدّئ من غضبه وطلباً للخير». كان المصريون القدماء يقدمون لنهر «النيل» أضحية بشرية تجنباً لغضبه و فيضاناته.. وكذلك فعل شعب المايا. أما شعب الأزتيك فكان يقتل مئات من البشر في ليلة واحدة لإرضاء الآلهة طوال الليل وحتى بزوغ الشمس ما يعني لهم أن الآلهة قبلت القرابين وستستمر الحياة لمدة 52 سنة أخرى. تذكر النقوش في معابد الأزتيك أنه وفي عام 1487 وفي أربعة أيام تمت التضحية ب 80400 إنساناً!! إذاً كان على الأزتيك تأمين هذه الأعداد الكبيرة من الأضاحي البشرية فماذا يفعلون؟ كانوا يخوضون حروباً مستمرة للاستيلاء على أسرى يقادون لاحقاً كقرابين. وجود الأضحية يتطلب تواجد رجل دين أوكاهن يؤدي الطقوس. تُقاد الضحية إلى أعلى الهرم حيث ينتظره خمسة رجال دين, يقوم أربعة منهم بتثبيت الضحية من يديه ورجليه بينما يقوم الخامس بشق بطنه بسكين حجرية حادة حتى يصل القلب فيقطعه ويخرجه وهو لازال ينبض ويرفعه إلى السماء كي يرى الإله ذلك.. إذ كان شعب الأزتيك يؤمن أن الحياة تدور مع الدم وبما أن القلب هو منبع الدم فقد كانت القلوب هي القرابين التي تقدم لإله الشمس. قدمت الأضاحي لكثير من الآلهة: إله الشمس والليل والنار والمطر حيث يقدمون لهذا الأخير الأطفال الصغار من الصبيان والفتيات للحصول على موسم وفير. وقد عرفت معظم شعوب العالم القديم الأضحية البشرية على ما يبدو, فعرفها السومريون والفراعنة والكنعانيون والصينيون والقبائل البربرية الأوربية وبعض القبائل الإفريقية. لكن ما من شعب قدم الأضاحي البشرية بتلك الأعداد الهائلة كما شعوب أمريكا اللاتينية من الأزتيك والمايا وغيرهم رغم أن هناك من يصف هذا بالكذب والتدليس على تلك الشعوب ويتهم الاستعمار الاسباني بفبركتها لتبرير إبادته لتلك الشعوب وقتلها.. والحقيقة أن تلك الطقوس موجودة فقد تحدثت الرسوم والنقوش في معابدهم عن ذلك. تطورت الشعوب وتحضرت, وساهم العلم في دحض كثير من الخرافات والأوهام, وما كان حقيقة دينية قبل قرون صار وهماً- كمثل الأضحية البشرية- وسيأتي العلم يوماً ما بمزيد من الحقائق التي تكشف عورة كثير من العقائد وتضيفها إلى ركام الخرافات والأوهام.. فسبيل الإنسانية الوحيد نحو الخلاص هو العلم. كان من مفرزات العلم والتحضر استبدال الأضحية البشرية بأخرى حيوانية- ريثما يتم الخروج من رموز الأضحية على يد العلم- وهكذا أعفي الجنس البشري من تلك المذابح الرهيبة التي قدمت بالآلاف على مذبح الآلهة استرضاء واستعطافاً.. أما أن نعيش نكوصاً رهيباً نحو البدائية فهذا أبعد ما كنا نتصوره!! في كتابه «المثقفون العرب والتراث- التحليل النفسي لعصاب جماعي» يرى جورج طرابيشي أن العرب- كأمة- يعانون من «العصاب الجماعي» أي الهروب من الحاضر ومواجهة الآتي, بالعودة إلى الماضي والعيش فيه.. هكذا نتمتع بماضٍ هرباً من استحقاقات مستقبل, ويبدو أن جمال الدين الأفغاني كان قد وقف على مثل هذا المرض العربي فقال: «العربي يعجب بماضيه وأسلافه, وهو في أشد الغفلة عن حاضره ومستقبله». كان الماضي العربي في كثير من نواحيه يتمثل بغزوات تشنها قبائل على قبائل أخرى.. وقد قيل ما معناه: لولا وجود (اسرائيل) لتابع العرب غزواتهم على بعضهم البعض.. أعتقد أن هذا الكلام قد فات أوانه فقد أتم كثير من العرب المصالحة العلنية وغير العلنية مع (اسرائيل) وهكذا تفرغ العرب لغزو بعضهم بعضاً! ومن كتابه «المرض بالغرب.. التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي» قال جورج طرابيشي: «الظلامية مثل الثورات، بل أكثر من الثورات، في قسوتها على أبنائها.. فإن كانت الثورة تنتهي بأكلهم، فإن الظلامية تبدأ به, فهي لاتطيق وجود متنورين حتى في صفوف دعاتها». ثمة من يريد حرق كل ما حاولت أجيال عدة بناءه من تحضر وعلم وحداثة- مع أن العربي لم يعرف عملياً معنى الحداثة ولم يقترفها بعد إلا في ناحيتها التكنولوجية, أما النواحي المعرفية فيبدو أنه مازال بعيداً عنها وثمة من يفترض عدم وجود مدينة عربية حقيقية أصلاً- مع ذلك ثمة من لم تعجبه طريقة الحاضر, لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها هنا- لكن من أهمها عدم قدرة البعض على التكيف والسقوط المريع والمتفاقم في ذلك العصاب الجماعي الذي عملت على تكريسه قوى عديدة في الداخل والخارج- فإذ بنا نعود وبمشهدية مريعة وطازجة إلى طقوس القتل الجماعي في مشهد أشبه بسوق آلاف القرابين البشرية من الأسرى إلى مذبح إله متبجح حقود غاضب لا تهدأ نفسه بغير الدماء والقلوب التي خرجت من الصدور وهي مازالت تنبض! فأي عصاب يعيشه العرب- إلا من رحم ربي-؟! |
|