تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مايكل أونداتجي صاحب «المريض الإنكليزي»..رحلة بين الحضارات والأمكنة

فضاءات ثقافية
الثلاثاء 5-3-2013
هل كانت الرواية المكتوبة بالانكليزية تعرف اليوم هذا الازدهار والحضور لو لم تعرف «الدعم» الذي قدمته إليها البلدان الأميركية أو تلك المناطق الجغرافية التي تزدهر فيها هذه اللغة وذاك الأدب بأشكال مختلفة، على الرغم من مناخاتها المتباعدة وثقافاتها المتفرقة؟

في النصف الأول من القرن العشرين، جاء جيل من الجنوب الأميركي ليضفي على لغة شكسبير نفحة جديدة: همنغواي وشتاينبيك ودوس باسوس وفوكنر وغيرهم، إذ عرفوا كيف يحملون معهم «إعصار الملاحم والهواء الرطب» الذي كان يلف جنوبهم الغارق في «البلوز». وبعد سنين عديدة من ذلك، جاء روائيون آخرون، كتبوا بالانكليزية أيضاً، ليضيفوا إلى فضاء السرد ألواناً مدهشة، وكانوا يأتون من قارات مختلفة: سلمان رشدي (الهند) ونايبول (ترينيداد) وكازوو إيشيغورو (اليابان) وبن أوكري (نيجيريا) ومايكل أونداتجي (سيريلانكا). وهذا الأخير اكتشفه القارئ العربي بعد ترجمة روايته «المريض الإنكليزي»، وهو يكتشفه اليوم مع «رؤى الانقسام» (منشورات الجمل، نقلها إلى العربية شارل شهوان).‏

مايكل أونداتجي (مواليد عام 1944، في سريلانكا (وكانت تدعى سيلان)، تلقى علومه في إنكلترا، يعيش حالياً مع عائلته في كندا حيث يُدرّس الأدب في جامعة تورونتو. ويعتبره النقاد أحد الكتّاب الأكثر أهمية والأكثر إبداعاً بين أبناء جيله. ربما ما ساعده في ذلك إقامته في ثقافات عدة، وليس بين ثقافتين. فحين يكون المرء «بين» أمرين، معناه أنه ليس في أيّ مكان، ومع ذلك، فهو مثل بعض الكتّاب الذين لا يبدعون أبداً بلغتهم الأم، أيّ أنه صلة وصل، وجسر بين كيانين. من هنا، نجده يملك مسافة كافية تفصله عن هويته «المستعارة» ليقول ما يجب قوله وليأخذ منها ما يجب أخذه. والحال هي ذاتها بالنسبة إلى هويته «الأصلية».‏

صحيح أن شهرته طبّقت الآفاق، حين حصل فيلم «المريض الإنكليزي» على عدد كبير من جوائز الأوسكار، إذ كان مقتبساً عن رواية له (بالعنوان ذاته)، لكن تجدر الإشارة إلى أن روايته هذه كانت حازت جائزة «بوكر» عام 1992، وهي أهم جائزة أدبية بريطانية. بيد أن تفرد أونداتجي بدأ مع روايته الأولى «جلد الأسد»، وقد فرض هذا التفرد مع روايته الثالثة «مشابهة» التي ليست سوى سيرة ذاتية غريبة وفاتنة. فروايته هذه، هي أولاً وقبل أي شيء، رحلة عبر الفضاء والزمان، رحلة عبر مختلف الأشكال والألوان الشعرية والسردية والملحمية والغنائية، إذ عرف كيف يزاوج فيها هذه الأنواع المختلفة فيها. إنه كتاب رحلة في الذاكرة والذكريات، التي تؤججها عودته إلى الوطن بعد أن غادره لفترة طويلة. وفي هذه العودة، إعادة اكتشاف لهذا الوطن بعد أن حمل أولاده معه للمرة الأولى.‏

بعد وصوله، تعود تلك الأمكنة، تلك العطور الطيبة، لتسري مجدداً من خلال تلك النظرة المزدوجة للماضي (ماضيه) وللحاضر (حاضره أيضاً وخاصة نظرة أولاده إليه). إنها نظرة تحرر التموجات وتثير الصور وتعيد إحياء الأشباح. ففي سيريلانكا مايكل أونداتجي كما في مكسيك خوان رولفو, أو كولومبيا غارسيا ماركيز نجد أن الحدود التي تفصل الواقع عن الخيال، كما الحدود التي تفصل الكائنات الحيّة عن الوهمية، هي حدود لا توجد إلا لكي تلغى، إذ ما من جزء من تلك العقلانية الأوروبية (القديمة) أو من تلك الدقة الأنكلوساكسونية (التي خبرها الكاتب) يأتي ليعارض انسيابات هذا الفضاء أو ليفرمله أو ليؤطره..‏

التمييز‏

«رؤى الانقسام» هي الرواية الخامسة للكاتب، ومنذ بدايتها نقع على كلّ شروط اللعبة. العنوان الأصلي Divisadero، أي شارع ديفيزاديرو، الشارع الذي جاءت منه آنا. والكلمة تأتي من اللغة الاسبانية التي تعني تقسيماً، أي أنه الشارع الذي كان في السابق يقسم ما بين سان فرانسيسكو وحقول «بريزيديو» إلا إذا كان ينحدر من كلمة Divisar أي تمييز... أي المكان الذي تذهب إليه نظرتنا في البعيد.‏

هذا ما يطالعنا في بداية الكتاب: التمييز، أن نعود لنتذكر أحداثاً أو أشخاصاً ضاعوا في الماضي، لنلحق بهم مجدداً لدرجة أننا نراهم في كلّ مكان، تماماً مثلما تفعل آنا، التي نلاحقها في طفولتها، في إحدى مزارع كاليفورنيا الشمالية، لنجدها لاحقاً وهي تعمل في مركز للتوثيق حيث كانت تكتشف نصوصاً في التاريخ والفن من أجل إعادة رسم حياة لوسيان سيغورا، وهو كاتب شهير عاش في جنوب فرنسا في بداية القرن العشرين. وبين هاتين اللحظتين، ثمة فراغ لا نردم إلا جزءاً منه في مكان آخر من الكتاب. ‏

يشكل الطريق المكان الذي تتابع فيه قصة آنا وكلير وكلوب، إنه الطريق الذي تسير فوقه ليلاً حين تنساب حياتنا كلها خلفنا. أما النهر فهو المكان الذي تتابع فيه قصة سيغورا التي تغمر النهر والطريق، مثل حياتين، مثل حكاية مروية بالمقلوب كما حكاية مروية بالطريقة السليمة. بهذه الطريقة، تقبل العالم، الماضي، الحاضر، الرسم، السينما، الأدب، الموسيقا كما أيضا بعض نتف من حرب، وهي حرب العراق عام 1991 التي تختصر بلعبة فيديو يدمن عليها كوب في لاس فيغاس. وإذا ما استدعى اونداتجي الحرب، في روايته الأخيرة هذه، نجده يستدعي أيضاً أحد موسيقييه المفضلين تيلونيوس مونك.‏

أن نقرأ اونداتجي معناه أن نذهب قليلاً في رحلة بين الحضارات والأزمنة والأمكنة. هذا ما ينجح فيه هنا، وقد يكفي لنا كقراء أن نذهب معه في رحلته الجديدة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية