تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


العدو القابع في القلب

آراء
الأربعاء 21/2/2007
نهلة السوسو

إذا بقي الإنسان, يتأثر, ولو بنسبة الومضة العابرة, ببعض ما يجري حوله فهو ينعم بالحياة, حتى لو هجاها وتذمر منها,

وأعلن سخطه عليهافي البكور والعشيات, فرب حصاة واحدة جعلت بحيرة ترتعش على اتساعها إما مستفيقة, أو موجوعة, أو محتجة على اختراق أحشائها من جسم ضئيل, غريب لا حيلة لها فيه! وأبسط المواقف وردود الأفعال, هي تلك التي نفهمها ونسميها بالفرح, والحزن, والخجل, والرفض, والقبول, أو ما شئنا من التسميات, أما تلك التي ينعقد أمامها الكلام, ويجف الريق, ويتلجلج اللسان فهي اللطمة المباغتة التي تأتينا من جهة غير متوقعة, كأن نمد يدنا إلى جذع شجرة لقطف قرص عسل بري, فتهب علينا الدبابير الجائعة للدم, تلهب جلودنا بإبرها المسمومة, المؤذية!‏

حين قرأت ترويسة الصفحة الأخيرة من جريدة الفرات, نهاية الشهر الماضي: (وقال النهر..) مشفوعة بربة الينبوع الجميلة, رمز تلك الضفاف الخالدة, التي حين تتزين تبهر الوجدان والعين بنخيلها وأسلها وقمحها, داعبت خيالي كل الحكايات الجميلة.. التي يستنهضها صوت الماء وأطربني اسم الزاوية (وقال النهر)! ياله من تعبير رفيع يختزل حكاية الفرات الأزلية مع الإنسان, الذي عاش على ضفافه وتعلق فيه, تعلق الجسد بالروح! الفرات الذي منه, كانت صفة الغزارة والعذوبة, ومنه خرجت أسطورة ربة الينبوع التي تحمل جرتها, وتقنعنا حتى اليوم أن كل هذا الماء يأتينا من بين يديها!‏

وتحت هذا مقال لكاتبة عنونتها ب (بيني وبيني)! وتعالوا, ولا أقول تعالين, لنمد أيدينا إلى جذع الشجرة لنلتمس بعض العسل البري! تقول الكاتبة إنها جلست إلى نفسها في جلسة صفاء أو كدر, تتأمل هموم العالم لتسهم في حلها, فحمدت الله وشكرته, بداية, لأنه لم يرزقها إلا ببنت واحدة (هذا لأن همّ البنات إلى الممات!) ثم شمرت ساعديها للفحص والتشخيص, فرأت أن كل النساء الكهلات, ملأن عيادات الأطباء, ليس بسبب تقدم العمر وفناء الطاقة في تربية الأولاد, والأمراض المختلفة التي تعتري الجسد لانعدام الوعي الصحي والغذائي والإنجابي, بل لأن بلوى إنجاب البنات أصابتهن, وقد بتن على أبواب الزواج ولا زواج!‏

(الأم إذاً تشتهي السعادة التي ذاقتها لبناتها البائرات, ولا تبوح لهن بذلك, بل تتوارى كاذبة حتى تلجأ إلى عيادة الأطباء!) وفكرت الكاتبة مشكورة بحل سريع ناجع, لا تدخل فيه تعقيدات البطالة والسكن, والمهور العالية التي لم تسمع بها كما يبدو, ثم اكتشفت في نفس اللحظة أنه ليس حلاً, بل شبه حل, لأن الحل النهائي صعب جداً وأقرب إلى المستحيل!‏

أما شبه الحل الذي ارتأته بجرأة تحسد عليها, فهو التحرك في كل الاتجاهات المتاحة التي لا تنافي الشرع ولا العرف (أرجو التلبث هنا, عند الربط بين الشرع والعرف!), وكل هذه التحركات مطلوب منها الزواج الثاني! ولا تظنوه ذلك المثير للشقاق, والضغائن, والدموع, والمحاكم وخراب الأسرة.‏

لا, إنه هنا المغلف بالعقلانية, البعيدة عن العواطف الأنانية, والأفكار المترسبة من مثل (الضرة مرة) وما شابه, وعلى هذا الزواج الطهراني المهذب, الاحتفالي, كشراء أثاث منزلي جديد, أن يتم بإشراف الدولة والجهات المسؤولة, ولا يترك لإرادة الأفراد (أقسم بالله إن هذا اقتراح الكاتبة)!‏

أما بنود التبشير المكملة لهذا الحل فتكون ألا يقدم على الزواج الثاني إلا من لديه القدرة المادية والمعنوية والصحية, وأن يختار الزوج الثانية ممن فاتهن القطار أو كاد, أو من الأرامل والمطلقات وألا يتزوج صغيرات السن (ربما بانتظار أن يحرمهن الدهر من إغواء الاستخدام) وأن لا يسافر خارج القطر (على وزارة الداخلية حرمانهم من جوازات السفر ووضع أسمائهم على الثغور كالمطلوبين للعدالة) وأن يحدد النسل بطفل واحد أو اثنين من كل زوجة (لم تحدد الكاتبة الفرق الزمني المسموح به بين الزواج الأول والزواج الثاني احتياطاً من إنجاب الزوجة الأولى أكثر من ولدين!) وأن يؤخذ رأي الزوجة الأولى فيمن ستشاركها حياتها وزوجها, وأن تتغير تسمية الضرة إلى صديقة العائلة (يتوجب انتزاع هذه الكلمة من الزوجة الأولى حتى تثبت أنها تخلصت من رواسب الماضي والتفكير الأناني), ويبقى أن تنشط الهيئات الدينية في توعية الساهين والجاهلين, الذين لا يقرؤون, وقال النهر في صحيفة الفرات, وتذكيرهم بالعدل بين الزوجات (هما زوجتان على ما نذكر, فلمَ الخطأ اللغوي هنا?).‏

ما بقي من قرص العسل, هو أن الأزواج ذوي المواصفات العالية خُلقياً, وخَلقياً, ودينياً وثقافياً لا يحتكرون من قبل زوجة واحدة, وأن تسعد بهم زوجات أخريات (لأن لا مصادر سعادة على الإطلاق إلا الرجل الواحد الأوحد), وأن يقسم الزوج ذو الطبع الحاد والمزاج العصبي على زوجتين تتساعدان على تحمل بلائه بدلاً من واحدة (سبحان الله, العصبية كالحساسية لا تعطس إلا في وجه الزوجة, وعلى العصبي أن يلقي بثقله ككيس الزلط على زوجتين!).‏

وتختتم الداعية نظريتها بأننا تناسينا تعدد الزوجات نتيجة عصرنا المزعوم (ماذا تعني بالمزعوم هنا? أهو غير موجود مثلاً ونحن لا ندري?), وأن الأنبياء عددوا الزوجات, وكذلك فعل الصحابة والصالحون والخلفاء الراشدون والملوك (هل للملوك صفات الصلاح والنبوة أيضاً?).‏

أريد أن أذكرك أيتها الداعية بالغريزة النسائية الأساسية التي عبرت عنها طفلة اعترضت على زواج أبيها, وانحازت إلى أحزان أمها, عندما قال إنه يتشبه بالنبي, وينعم بالحلال المباح وصرخت بوجهه: كن كالنبي في عظمته وأخلاقه ورسالته التي غيرت طبيعة البشرية الأخلاقية, ثم تزوج من تشاء!‏

المثير للعجب أن هؤلاء الدعاة, الأدعياء, لا يحفظون من القرآن الكريم إلا الآية الكريمة التي تبيح الزواج المتعدد للضرورة, ويتناسون القيم العظيمة التي يحث عليها من التراحم والعدل والسمو الروحي.. وكيف تقزم الزواج لدى هذه الكاتبة, وخلع المشاعر الموجودة حتى لدى الحيوان حين يختار شريكة واحدة يحميها ويغار عليها, ومن سمح بنشر هذا المقال الغريب? وللصحافة حرمة كحرمة الأماكن المقدسة, ولن نقبل إجابة تدرج نشره تحت عباءة حرية الرأي.. لأن الصحافة والإعلام يعملان منذ عقود على حراثة الفكر الاجتماعي, وتنظيفه من العرف المناقض للشرائع, ومنه التمييز بين الجنسين, والزواج المبكر والمتعدد دون الضرورات القصوى, وزيادة الوعي بالذات الإنسانية ذكورة وأنوثة, فياخيبة كل تلك الجهود التي تبذل من أجل تحرير الروح, إذا كانت قد أخرجت الأمَة (أنثى العبد) من الظلمات, فكانت العينان قد اعتادتا الانحسار أمام النور.. ويالضياع الجهود التي عجزت عن هزيمة عدو لأنه ببساطة عدو قابع في القلب, وليس على الحدود!‏

ياسيدة شذى برغوت, أترك ما تقدمت به, برسم المنظمات الإنسانية وما شئت من حركات تحرير المرأة أو الإنسان, ولن أرميك بحجر كما توقعت, بل أنتظر دعوتك إلى عرس زوجك (أرجو أن تكون الدعوة قريبة جداً) رغم نفوري من الحفلات الصاخبة وضجيجها الذي لا يحتمل, علماً أنني سأكون إلى جوارك, وليس إلى جوار الأرملة, أو المطلقة, أو (النصف - عمر) العروس.‏

ففي مدينتك حلوى محمودة اسمها الكليجة, ولا أدري إن كانت تقدم في الأعراس, لكنني أحب أن أتذوقها في بيتك بعد أن تسكنه الصديقة الجديدة, علها تشاطرك إما فضائل زوجك المحظوظ, أو عصبيته (ولا حاجة لدى أحد لكشف المستور في حياة سيدة مضحية مثلك).. وتقبلي تحياتي الحارة ياحفيدة ربة الينبوع لأنك تجاوزت في نظرياتك المدهشة عصر الجواري, وتأليه الجنس الآلي المنقطع عن المشاعر والحب وسلمت قلوبنا وأرواحنا, وحميمية غرف نومنا, للدولة والمؤسسات الرسمية, وحققت نبوءة (الدوس هكسلي) بتفريخ البشر في (الفقاسات), ورفضت الإحصاءات التي تؤكد توازن البشر, بين الجنسين, إلا بعد انحسار الحروب الهائلة, عن التهام الرجال, ونرجو أن تفكري لنا في هذه المعضلة, حين تجلسين, جلستك المقبلة (بينك وبينك), وتعطينا جواباً عن سؤال: لمَ يكثر عدد النساء بعد الحروب المدمرة? حقاً, لماذا? وما الحل? فتح باب طلبات الزواج للنساء الحزينات من أي رجل حي أم العمل من أجل مناهضة الحروب, والعنف? فكري.. ووافينا بالحلول رجاء.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية