|
فضاءات ثقافية انطلاقاً من فرنسا وصولاً إلى آخر الأراضي الروسية. بيد أن الكتاب لا يتطرق إلى الرحلة فقط، بل تستعيد فيه سيرة والدتها التي غيبها الموت قبل فترة وجيزة من هذه الرحلة، لتضيف إليه نصاً آخر، كانت كتبته بعيد رحيل والدها منذ سنوات، ليشكل النصان، قراءة مميزة في معنى الغياب والموت والحضور أيضاً. رحلة، تستعيد فيها أيضاً مقاطع من كتّاب قاموا بهذه الرحلة قبلها، إذ إن مسار هذا القطار، شكل بالنسبة إلى العديد من كتاب العالم، موضعاً أدبياً فريداً، فمن ينسى قصيدة الشاعر الفرنسي – السويسري، بليز ساندرار الفريدة (نثر القطار السيبيري) التي كتبها في بداية القرن العشرين، والتي لا تزال حاضرة لغاية اليوم، في تاريخ الأدب العالمي. حول هذا الكتاب، التقت صحيفة «لونوفيل أوبسرفاتور» الكاتبة، التي أجرت معها حديثاً مطولاً، نقتطف منه هذه المقاطع التي تتعلق بفكرة الموت والكتابة: < حين صعدت إلى متن القطار السيبيري، بالضبط بعد وفاة والدتك، هل كنت تتوقعين أن تكتبي نصاً تحتل فيه، هذه المرأة التي كانت غادرت لتوها، مكاناً كبيراً إلى هذا الحدّ؟ أم إن الأمر فرض نفسه عليك، طيلة الرحلة التي أوصلتك إلى فلاديفوستوك؟ << أبداً، لم أكن أتوقع بتاتاً أن أستدعي أمي في هذا النص، وبخاصة أنه لم تكن لها أي علاقة مع سيبيريا. ومن النادر جداً أن أدخل عناصر شخصية في كتاباتي، والأندر أيضاً أن استعمل صيغة (الأنا). بيد أن هذه المرة، فرض ذلك نفسه عليّ – لا كبداهة فقط، بل كحاجة ملحة – طالما أن هذا الحزن الطازج ما زال يسكنني، محتلاً أفكاري باستمرار، وأحياناً كان يصعد لغاية أن يصبح مسنوناً، وباقي الوقت يبقى مخفياً. < تقولين في إحدى جملك الموجهة إلى والدتك: ( سيبيريا، بلد لم تذهبي إليه أبداً ولم يكن يثير فيك أيّ رغبة. (...) سيبيريا – بلد جئت إليه أخيراً إذ طالما كان يلاحقني). يفرض الموت حضور والدتك في مكان كانت غريبة عنه كما أنه شوّش رؤيتك للمنطقة التي كنت تصبين إليها، منذ زمن طويل لكي تكتشفيها. ومع ذلك، ما من تمرّد على ذلك، ما من تحفظات تنبثق من النص. إنه نص مكثف، مشدود، ثقيل أحياناً، لكن ثمة انسيابية وقبولاً بالأمر ينطلقان منه في النهاية. تنسج الكلمات نفسها على طول مسار السكة الحديد حيث تحتفظين برتابة خطها أكثر من الانقطاعات العائدة لتوقف القطار, هل عشت الأمر بهذه الطريقة؟ أم أنك أحسست بتشوش مستمرّ، بعاصفة داخلية كنت تشعرين معهما، كلّما تقدم القطار، بتناقض مع هذه الأرض المسمرة تحت الجليد والثلج؟ << أيّ شعور كان يمكن أن أحس به فعلاً، تجاه ماذا أو تجاه من؟ من العبث أن نبرهن عن شعور ضد حدث الموت الفج – ليس الموت «شخصاً» محدداً، شخصاً يضجركم، إنه ليس أبداً «شخصاً»، لا شيء، إنه بطلان؛ تماماً كما لو أننا نصارع الريح. < تقولين «أن نحوّل ثقل الحزن إلى رجاء»، هل يملك السفر هذه السلطة؟ أم إن ذلك يأتي لاحقاً، حين نكتب النص؟ هل تحريك الجسد في الفضاء، الدخول إلى زمن آخر، وبخاصة عبر القطار، كما اللقاءات العابرة التي تتحدثين عنها قليلاً، هل يمكن لذلك كله أن يمس القلب مثلما يمس الجسد؟ << أي تحوّل مماثل لا يأتي بسرعة، لا يأتي عبر زمن رحلة فقط حتى وإن كانت طويلة وبطيئة، بل إنه يتطلب وقتاً أكبر بكثير – شهوراً أو سنوات، وأحياناً حياة بأسرها. أما فيما يخصّ مسألة أننا في القطار، وأننا محمولون بهذا الانسياب المستمر، المشوب بسديم خفيف وببعض التوقفات، فإنه يشعرني بالانسيابية تقريباً، كما لو أن الجسد يصبح أكثر مسامية لأمواج الوقت الذي يمضي، كما أن ذلك يشعرني أيضاً بانعتاق وبهوات داخلية. إن الكتابة، التي ترتفع من دينامية السفر، تسمح لنا بتعميق هذه الأحاسيس، بأن نتبع الخيوط (على الأقل بعضاً منها) المفككة، المهدبة. أما اللقاءات مع المسافرين الآخرين، كما مع أشخاص آخرين فيما بعد، فهي تمارس تأثيراً ما بالطبع، كل لقاء بطريقته الخاصة، وعلى مستويات مختلفة وعلى فترات طويلة نسبياً ومتباعدة. < هل للكلمات أيضاً هذه السلطة في «تحويل ثقل الحزن إلى رجاء»؟ إذ انك تعطينها مكانة سامية، حين تحللين جميع المقاطع الصوتية لكلمة التايغا، وتسلسل أسماء الشعوب التي اجتازت سيبيريا، كما المدن التي اجتزتها. نشعر بأن رنين الكلمات تثقب صمت الأرض السيبيرية، وبشكل أقسى، أراضي الموت: إنها أساليب بشرية للمعرفة والمعرفة الذات. هل للكلمات أي سلطة على الموت؟ << تملك الكلمات كل السلطات ولا تملك أيضاً أي سلطة، وسلطتها كلها تكمن تحديداً في لا سلطتها. أو أيضاً، يمكن لنا أن نحدّد بأن (سلطة) الكلمات ليست وفق نظام السلطة بل وفق سلطة الممكن. ما من كلمة مناسبة قط لوصف ولاحتواء ما أصابنا للتوّ وشوشنا من الأعماق، أكان من جانب الفرح أم من جانب الحزن، من جانب الألم أم من جانب المتعة، لكن الكلمات كلها، من الأكثر عامية إلى الأكثر ندرة، تعطينا إمكانية أن «نعني»، على الأقل، شيئاً نحس به؛ بهذه الطريقة فهي تساعدنا على إعطاء معنى، اتجاهاً، تخطيطاً لهذه القوى الصامتة – (المريبة أحياناً بكثافتها) – التي ترهقنا. < ولكن كلمات الآخرين حاضرة أيضاً في كتابك. يأتي الأمر بمثابة رحلة في الفضاء الأدبي (ماندلشتام، باسترناك، آخماتوفا، تسيلان، ساندرار) كما هي رحلة في الجغرافيا. في أيّ حال هذا ما نجده في غالبية نصوصك، حتى الروائية (كما في آغنوس). لِمَ تستشهدين بكتاب آخرين، لِمَ تنسحبين إلى الخلف، لماذا لا تقدمين تحية فقط, بل تضعين حضور هؤلاء الكتاب الآخرين؟ << لماذا أستشهد (بالآخرين)؟ للمتعة! لأني أجد، هنا وهناك، جملاً، أبياتاً، مكتوبة من قبل روائيين وشعراء، يتراءى لي أنهم عبروا جيداً، بصوابية كبيرة، وبروعة أحياناً، عما كنت أبحث عن قوله. لذلك، انمحي، قليلا، خلفهم، كي أفسح لهم في المجال، لتشريفهم. بيد أن ذلك لا يمنعني من القول، بل على العكس، نجد أن كلمتي تستعيد لاحقاً ثقلها واندفاعها على كلمات الآخرين المعجب بها. لانكتب إلا لأن آخرين كتبوا قبلنا، إننا موجودون دائماً في حركة واسعة بدأت منذ قرون، منذ آلاف السنين.. نكتب دائماً في حوار وصدى ونداء مع الآخرين. < (يئن العالم من حوار الطرشان المستمر والمتبادل بين الأحياء والأموات. نادرون هم الذين يملكون سمعاً مرهفاً كي يشعروا بالأصوات الهاربة وبالصوت الواضح كي يستمعوا لصوت الأموات)، هذا ما تكتبينه, هل هناك لغة تسمح لنا بمتابعة الحوار ما بعد الموت؟ << ليست هناك لغة خاصة «تسمح لنا بمتابعة الحوار ما بعد الموت». يمكن للكلمات اليومية أن تقوم بالأمر، والصمت بدوره يمكنه ذلك. بخاصة الصمت. لا يمكن «للحوار» بين الأحياء والأموات إلا أن يكون صامتاً، وعارياً أيضاً، هي كلمات تزهر بالصمت، محاطة بالصمت. إنه توازن غير ثابت، علينا أن نعيد تشييده من دون توقف، ما بين جهد الانتباه الداخلي وبين إهمال هذا المجهول المفتوح على الاندثار(...). |
|