|
ملحق ثقافي وهو حصاد وفير لم يأخذ حقّه من الدراسة والنقد بعدُ لثلاثة أسباب، أولها: طباعة معظم هذه الأعمال في حلب، سواء على نفقة المؤلف أم عبر دور نشر محليّة محدودة التوزيع. وثانيها: زهد المؤلف بالأضواء وعكوفه عن تسويقها وإيصالها إلى المتابعين من المشتغلين في النقد والدرس الأدبي. وثالثها: معاصرتنا ومعايشتنا له،
والمعاصرة غالباً ما تكون حجاباً يحدّ من الاطلاع على التجربة وتقويمها. وما هذه القراءة إلا إطلالة على جوانب من عالمه الروائي عبر أربع روايات هي: «حارة محبّ»، و«هسيس الغياب»، و«طائر الفينيق»، و«باب الغياب». وسأكتفي بعرض الثيمات الفنيّة والموضوعاتية الرئيسة فيها، والتركيز على روايته الأخيرة: «باب الغياب». أوّل الثيمات التي تميّز هذه الروايات الأربع فنيّاً أنها تنطلق من لحظة حاضرة عبر مصادفة، أو سؤال، أو مشهد، أو تأمل، ثم تنفتح على ماض بعيد مستعيدة علاقاته ومناخاته وأحداثه وشخصياته وصراعاته. وبذلك يتوالى السرد عبر مسارين متداخلين متناوبين، أحدهما في الراهن، وثانيهما في الماضي البعيد أو القريب. ففي «حارة محب» يبدأ السرد من حارة محب، ومن مشهد باب دار الصيداوي فيها تحديداً، ليعود عبر تقنية الخطف خلفاً إلى ماضي صاحب هذه الدار راصداً تنقلاته وعلاقاته من لبنان إلى حماة ثم حلب. وفي «هسيس الغياب» تشكّل الرسائل التي وصلت إلى الراوي من الغرب، عتبة افتتاحية ينطلق منها إلى ما أثارته في نفسه ومخيلته مستعيداً من خلال تصفّحها علاقاته العاطفية بأصحابها الذين يولدون من جديد على الورق. وفي «طائر الفينيق الدون ريكاردو» يستدعي سؤال عادل لصديقه عبد اللطيف سرد ماضيه في باريس وعلاقته مع «كريستيان» والأميرة «الدونا ماريا» وسلسلة مغامراته العاطفية. وفي «باب الغياب» يبدأ السرد من مصادفة عابرة في الراهن، يرى فيها الراوي فتاة تشبه الفتاة «أحلام» التي توارت خلف باب بيتها قبل زمن طويل، فتستدعي هذه الرؤية استعادة علاقته بها وماضيه وما آل إليه. إنّ تداخل زمنين في السرد وما يتبعهما من تداخل في الأمكنة والشخصيّات والعلاقات بقدر ما يسببه من إرباك في التواصل مع البرنامج السردي، يولّد دينامية عالية في النّص وينأى به عن الرتابة والإملال، ويحفّز القارئ المتعاضد على الربط والتأويل والتخييل، بوصفه قارئاً نوعياً فاعلاً لا منفعلاً فحسب. وثاني الثيمات في هذه الروايات على المستوى الفنّي أيضاً هو استثمارها للمأثور من أمثال حلبية دارجة، وأغان شعبيّة، وأشعار، وتوظيفها في السياق بلهجتها الدارجة بما يعزّز خصوصية البيئة من جهة، ويكشف عن وعي الشخصيّات وأنماط سلوكها وتفكيرها من جهة ثانية. وتزخر رواية «حارة محب» خاصّة بكم كبير من الأمثال، نحو: «الإلفة تزيل الكلفة ص48»، «رافق السعيد بتسعد ص51»، «ما للزمان أمان ص67»، «اللي ما تنفقا خدودا بتنفقا جدودا ص134»، «بنت الدار عورة ص226»، «اللي بتأمن منه خاف منه ص89»، «المال يجر إلى المال والفقر يدفع إلى الإذلال ص154». وهذا ما نراه في روايته «باب الغياب» أيضاً: «ما دام القمر معي بحرّك النجوم بإصبعي ص104»، «الإيد الما بتغضر تعضّا بوسا ص101»، «الرجال عند أغراضهم نساء 105». وكذلك على نحو أقل في روايته «طائر الفينيق»: «لكل أذان وقت ص27»، وروايته «هسيس الغياب»: «الله يديم سعيد على سعيدة ص102». وثالث الثيمات التي تكشف عنها هذه الروايات احتفاؤها بالتأمّلات الفلسفية التي تستدعي تعليق القراءة والتفكير فيها واختبارها عبر تناصها مع التجربة الفرديّة لكل قارئ. وهي تكشف عن خبرة حياتية واسعة لرواتها تعزّزها مناخات سفرهم وترحالهم وخوضهم غمار المجهول سواء عبر علاقاتهم بالمدن الجديدة أم بالنساء أم بالصراع الذي يعيشونه. ففي روايته «هسيس الغياب» تستوقف القارئ تأمّلات عدّة، منها: «الحياة تستمر على غرابتها وبرغم الخسارات التي تحقّقها لنا ص13». «النظرة حين تتجاوز حدودها تصبح فعلاً ص25». «ما هذا! هل الرجل ضعيف أمام الأنوثة إلى الحدّ الذي يجعله يتنازل عن كل أسلحته أمام طغيان رقّتها ونعومتها ص163». «العواطف تدير ظهرها لكل الفروق وتتطلّع نحو من تحبّ 167». وفي روايته «حارة محبّ» ثمة تأملات عميقة أيضاً يعاينها القارئ في غير موضع، منها: «لا يمكن للعيون القلقة أن تعرف معنى الرّقاد. ولا للصدور المبهورة أن تعرف معنى الهدوء ص13».
«القوّة مهمّة والمال مهمّ ولكن لا بدّ من عامل مساعد آخر يحرّك هذين العاملين بل العوامل المشتركة لإحداث دويّ وأثر يكون له امتداد على مدى بعيد، هذا العامل هو العقل ص37». «الزعامة تظهر مع المواقف والمواقف محك الرجال الذين تختارهم الأقدار ص47». ولا تخلو روايته «باب الغياب» من التأملات الفلسفية والوجوديّة التي تحفّز القارئ الوقوف عندها، مثل: «الحركة أقوى من السكون، والقوة أعتى من المهادنة، والخنوع أقوى من الاستسلام ص6»، «أيمكن لإنسان أن يكون قد عاش قبلاً في مكان وزمان مختلفين عن المكان والزمان اللذين يعيش فيهما حالياً ثم غادر بحسب طبيعة الغياب ص8»؟ ورابع هذه الثيمات في روايات الجابري الأربع تناوب الحوار بين العاميّ والفصيح، ولا عيب في هذا التناوب عندما يكون متناغماً مع منطوق الشخصية ووعيها وموقعها الاجتماعي ومنسجماً مع المشهد الحواري، لكنه يصبح مجافياً لحقيقة الشخصيّة وفنيّة الحوار عندما يأتي على لسان الشخصيّة الواحدة بالفصحى مرّة وبالعامية مرّة أخرى في المشهد الواحد، فيبدو مرتبكاً ومربكاً في آن معاً، وهذا ما يلاحظه القارئ في روايته: «باب الغياب» من خلال هذا المشهد الحواري بين الأم «بديعة» وابنها: «ـ لفين يا ولد؟ ـ إلى الساحة «يوم». ـ ماذا في الساحة؟ كل دقيقة «ع الساحة كل دقيقة ع الساحة!!» ماذا في الساحة؟ والله ما منك فائدة، اقعد «تخوزق» اقرأ لك كلمتين تنفعانك، الفحص والسنة على الأبواب ص33». وهذا ما يلاحظه القارئ أيضاً في روايته «حارة محبّ» في المشهد الذي يجمع بين الآغا والجارة «حياة»: «ـ لا تسء الظن يا آغا؟ أنا جارتكم. ـ أهلاً وسهلاً ماذا تريدين؟ ـ أهكذا ترحّبون بالضيوف ص94». فلا شك أن تجاور عدد من الكلمات الفصحى مع العامية على لسان الشخصية الواحدة وفي المشهد نفسه مثل: «لفين، ماذا» أو مجيء الحوار مخالفا لمنطوق الشخصيّة وموقعها ومستواها الثقافي كما في حوار حياة مع الآغا، يفقده صدقيته الواقعية والفنية. وخامس هذه الثيمات تنوّع طبقات اللغة في الرواية الواحدة ما بين المستوى الوظيفي التواصلي الذي نلمحه في السرد الإخباري والمستوى المجازي البلاغي الذي نلمحه في السرد الرومانسي. فمن المستوى الأول الإخباري التواصلي ما يأتي في رواية «هسيس الغياب» وصفاً للمرأة التشيكية على سبيل المثال: «إنها أشقى مما تتصوّر، المرأة المتزوجة خاصة تستيقظ في الخامسة صباحاً، وتحضّر أطفالها، تقدّم لهم الإفطار، وقد توصلهم إلى مدارسهم، وعليها أن تكون في تمام السادسة على رأس عملها ص29». ومن المستوى الثاني المجازي البلاغي ما يأتي على لسان الراوي/ البطل «عماد»: «أتابع تأوّد الجسد الغارق في السحر الإغرائي وهو يبتعد ويمطرني بشلاّل عبقه الفاغم ويبقيني كالشرنقة ضمن مؤثّرات وجوده الحياتي ص14». وقوله: «لم تكن عيونها كبيرة، لكنها مضيئة كحجر كريم ص 114». وهذا التناوب ما بين المستوى الإخباري التواصلي والمستوى المجازي البلاغي يضفي تنوّعاً دينامياً على الخطاب السردي ويحرّره من النمطية الأسلوبية المتماثلة والرتيبة. وسادس هذه الثيمات الحرص على العنونة الداخلية للفصول، لكن هذه العنونة التي تأتي بوصفها نقاط ارتكاز لتطور الأحداث ومسار الشخصيات أو علامات استباقية تشي بفحوى ما سيأتي يغلب عليها طابع الارتجال، ومن هنا جاءت بعض الفصول التي تنضوي تحتها قصيرة جداً لا تتعدى الصفحة الواحدة أحياناً! كما في عنوان فصل: «الرحيل إلى الشمال ص15» من رواية «حارة محبّ»، أو يستغرق أحياناً معظم الصفحات كما في عنوان فصل: «زواج القبضاي ص272» من الرواية نفسها! وهذا ما يلاحظه القارئ أيضاً في عناوين رواية «باب الغياب» العديدة التي يستغرق بعضها صفحة أو صفحتين وبعضها الآخر صفحات عدّة. وهو ما ينطبق على روايتي «طائر الفينيق» و«هسيس الغياب» أيضاً، مع الإشارة إلى أن «طائر الفينيق» انفردت بتقسيمها إلى جزأين يضم كل جزء منها عناوين مختلفة ومتفاوتة جداً في الطول والقصر. وسابع هذه الثيمات علاقات التناص المقيدة «علاقة نصوص الكاتب بعضها ببعض» وعلاقات التناص العامة «تقاطع نصوص الكاتب مع غيره». فعلى مستوى التناص المقيد تكاد تلتقي روايات الجابري حول ثيمة موضوعية واحدة تتمثل في الحب والغربة والاشتياق عبر ثنائية الشرق والغرب، أو ثنائية الفقر والغنى. كما تشكّل الرسائل بوصفها تقنية فنية ثيمة مشتركة في هذه الأعمال. وعلى مستوى علاقات التناص الخارجي/ العام فإن أعمال الجابري تلتقي مع ما سبقها من روايات سورية عنيت بتقديم صورة العلاقة بين الشرق والغرب، مثل: «نهم» لشكيب الجابري، و«خمر الشباب» لصباح محيي الدين، و«الظمأ والينبوع» لفاضل السباعي. وثامن هذه الثيمات وآخرها مدينة حلب بوصفها فضاء مكانياً/ إنسانياً مشتركاً في أعمال الجابري. وعلى الرغم من حضور مدينة «براغ» الطاغي في «هسيس الغياب» وحضور «باريس» في «طائر الفينيق الدون ريكاردو» إلا أن حلب تبقى حتى في هاتين الروايتين خلفية رئيسة للأحداث والشخصيات. ويمكن معاينة هذه الثيمة بالوقوف بشيء من التفصيل عند آخر رواياته «باب الغياب»، التي يستعيد عبر أحداثها وشخصياتها ملامح من الحياة الاجتماعية في حلب الخمسينيّات وحاراتها الشعبيّة، وهموم وهواجس أبنائها، وما آلت إليه في الوقت الراهن. تقوم حبكة «باب الغياب» على سرد حدثين مترابطين على لسان الراوي الذي تندمج شخصيته بشخصيّة البطل المحوري في الرواية «الروائي بديع». وأوّل هذين الحدثين يجري في الحاضر «ذهاب بديع إلى السينما مع صديقه كامل لمشاهدة فيلم «الطفل البريء»، وتداعيات علاقة الصديقين بـ «كارول» التي تتابع دراستها في باريس، وتنافسهما الخفيّ على الاستئثار بحبّها». وثانيهما يجري في الماضي «ما تستدعيه رؤية بديع لفتاة تذكّره بالصبيّة «أحلام» التي بدأ بكتابة رواية عنها ثم توقف عن متابعتها في اللحظة التي اختفت فيها. ثم ما تستدعيه مشاهدته للفيلم من ذكريات معها، ومع أمه «بديعة» التي كانت بما تملكه من جمال وسحر مدار صراع بين أبيه «نديم اللاطة» و»أبي عدنان» رئيس المخفر الطامع بالاستحواذ عليها بأيّ ثمن كان»! تشكّل «أحلام» التي تعرّف إليها الروائي «بديع» في ساحة بيع الكتب بحي «باب النصر» وسمّاها «فتاة السوق» المفتاح الرئيس لدلالة العنوان: «باب الغياب»، إذ بتواريها عن ناظريه خلف باب بيتها، أضحى الباب الذي توارت وراءه باباً للغياب، وتوقّف سرده لسيرته معها في الماضي، وسيرة أمه «بديعة» والصراع عليها، ليبدأ سرده الآخر في الحاضر مع «كارول» و»كامل» و»ميشيل». وما بين ذلك الماضي البعيد الذي غابت فيه الفتاة «أحلام» خلف الباب، كما غابت فيه «بديعة» على أثر الزلزال الذي ضرب منطقتي «تراب الغرباء» و«سوق النحّاسين»، والحاضر الراهن الذي شهد حب «كارول» لـ»كامل»، ورحيل «ميشيل»، ثمة خيط رفيع لا يجدي في فك الالتباس بين المرحلتين، أو بين الحياتين، وكأن ما كان ماضياً يعود من جديد عبر التقمّص أو الذكرى ليصبح حاضراً بكل تفاصيله، دافعاً الراوي/ الروائي لإكمال كتابة سيرته وسيرة «أحلام» معه بعد توقف طويل! ومن هنا فإن «باب الغياب» عنوان يفتح الحاضر على الماضي لا ليحييه ويتأمله فحسب بل ليواصل سيرته ويكشف أسراره أيضاً. ينجح الراوي في شدّ انتباه القارئ، وتشويقه، وتحفيز مخيّلته، عبر ربطه المستمر والمتداخل بين ذكريات الماضي ومجريات الحاضر في سياق علاقات الحب بين «بديع وأحلام، وكامل وكارول، وأبي عدنان، وبديعة» والصراع بين الأب الحدّاد نديم اللاطة ورئيس المخفر أبي عدنان، وبين بديع وكامل. فتحضر مفردات البيئة المكانية، ومنها دور السينما القديمة، مثل: «السعد» في باب النصر، و«الأوبّرا» في شارع القوتّلي، كما تحضر «مكتبة ربيع»، و«دار الألسن»، ومصبغة «الزنابيلي»، وأسماء أحياء حلب القديمة ومعالمها، مثل: باب النصر، وجبل الحوار، وجامع البهرمية، ومحلّة البندرة، وقسطل حرامي، وسوق الصغير، وأقيول، وجامع الزكي، والمدرسة الهاشميّة، وحارة محبّ، وزاوية العقيلية، وحمّام بهرام في حيّ الجديدة، وسوى ذلك. وتستدعي هذه الأمكنة بما تحمله من ظلال في الذاكرة الجمعية تعليق القراءة أحياناً واستعادة الماضي والتأمل أو الاستغراق في مناخاته الأليفة والحميمة. وتحفل الرواية بتوظيف الأمثال الحلبية لتعزيز منطوق الشخصيات وتفسير سلوكها ومراميها، كما تحفل بالمناقشات والتداعيات المونولوجية عن عناصر النّص الروائي من زمان ومكان وشخصيّات وخيال وسبل توظيفها وتناغمها الفنّي. ولا تخلو من التـأملات الفلسفيّة والوجوديّة التي تحفّز القارئ على الوقوف عندها. وبالقدر الذي ينوّع فيه الراوي أساليب سرده بضمير الغائب حيناً، والمتكلم حيناً آخر، فإنه يوظف تقنيات فنيّة عدّة، مثل: الاسترجاع، والمونولوج، والحوار، والوصف، ممّا يمنح برنامجه السرديّ دينامية عالية وتنوعاً أسلوبياً ينأى به عن الرتابة والترهّل على الرغم من التفاصيل الصغيرة التي تشتت الانتباه أحياناً من دون أن يكون لها وظيفة دلالية أو جمالية كما في الذكر العابر لأسماء معروفة والإشادة بمناقبها، مثل: شكري القوتلي، في سياق ذكر الشارع المسمّى باسمه في حلب. وفي الوقت الذي قدّم فيه الراوي بعض شخصياته عبر الاستبطان النفسي لدواخلها مثل شخصيات: بديع، وبديعة، وأبي عدنان، ونديم اللاطة، فإنه اكتفى بالوصف الخارجي عبر المظهر أو المهنة لتقديم عدد من شخصياته الأخرى على الرغم مما تحمله من إمكانات الاستبطان والتعمق في تفسير طباعها وسلوكها ونزواتها، مثل عم عبدو، وأحلام، والشيخ عبد الستّار، وشروّف الجدبة، وسعيد ترغل، وأبي مراس. في حين اكتفى بذكر أسماء حيّة معاصرة لمجرد الذكر لا غير مثل الأديب الراحل ميشيل أديب، وابنه أيمن، والناقد الراحل محمد عزام الذي قدمه قاصّاً! وأمام متعة التشويق، وعمق الاستبطان أحياناً، وجمالية الانتقال والربط بين الحاضر والماضي، والاشتغال على اللغة في الحدود التي تخرج بها عن الوظيفية المباشرة ولا تقع في مطب الانثيالات الشاعرية، فإن الحوار جاء مرتبكاً في أغلب المشاهد الحوارية، ويأتي هذا الارتباك كما ذكرنا من الدمج بين الفصحى والعاميّة في الجملة الحوارية للشخصيّة نفسها في المشهد الواحد! كما أن مسافة بعيدة تبدو أحياناً بين الشخصيّة ومنطوقها الذي يفارق مستواها الثقافي أو وضعها الاجتماعي، وهو ما نلمحه في حوار «بديعة» مع ابنها أو زوجها على سبيل المثال. لقد قدّم مأمون الجابري على الرغم من بعض الهنات الفنيّة واللغوية والنحوية والمطبعية عملاً روائياً يتناص مع أعماله السابقة عن حلب، عملاً ممتعاً وشائقاً وعلى درجة عالية من الاشتغال على جمالية اللغة السردية بوصفها أسلبة لخطابات شخصيات متعدّدة الأهواء والمشارب، قائمة على التنويع في الأسلوب والتقنيات، وهذا ما يضفي على تجربته الروائية الغنيّة طابع الأصالة والإبداع. |
|