|
الافتتاحية فلم يكن ينقص السياسة التركية إلا أن ينضم وزير خارجيتها جاويش أوغلو إلى جوقة العبث السياسي ومسرح اللامنطق في مقاربة الوضع في سورية غامزاً من قناة روسيا ومتوجساً من مصير إرهابييه، ليكتمل ثالوث الرعونة التركية بدءاً من رئيس النظام بأحلام سلطنته البائدة وأخوانيته المأفونة، مروراً برئيس حكومته صاحب نظرية العلاقات صفر مع دول الجوار، وليس انتهاء بهذا الوزير الذي يروّج للقوة التركية إلى حدّ الخلط بين الواقع والتمنيات. فبعد تهديد أردوغان وتصعيد داوود أوغلو جاء دور جاويش أوغلو ليكون البيدق الجديد ليس في ميدان السياسة وحسب، بل في العسكرة أيضاً، حيث الكذب ميثاق بينهما، لا تكتمل حلقته إلا بالمشاركة ليكون ثالوثا متآلفاً ومؤتلفاً على النسق ذاته من الوهم، بحيث ما يزيد عن الأول يستعين به الثاني، وما يفيض عن الثاني قد يكون مناسباً ليستدرك ما فات الثالث. المفارقة أن تركيا لم تكتفِ بكشف وجه غائر من العبث السياسي المحمول على أطماع تبدو مستحيلة التحقق خصوصاًمع رعونة التصرفات التي تحكم حكومة العدالة والتنمية، ويقودها الرئيس التركي ذاته، فاسحاً في المجال أمام تراكمات من الخيبة والعجز والفشل، حيث يبدو الغرب أكثر تحفظاً وربما تردداً من قبل، فيما الشرق يراكم شكوكه وقرائنه وأدلته على تهور تركي غير مسبوق طوال العقود الماضية. اللافت أن أحلام التركي لا تستقر على حال فلا تكاد تصل إلى قعر حتى تغوص في ما هو أشد كارثية، وأكثر وضوحاً في عبثيته، فالتركي اليوم يصارع طواحين الهواء في مغامرات أتاحت له حتى اللحظة تبديل تحالفاته، وتعديل مواقفه، وتغيير خياراته شرقاً وغرباً بدرجة تكاد تكون إلغائية لما سبقها..ومناقضة في الاتجاه والمضمون. وتأتي التصريحات التركية عن الضمير لتعيد إحياء عشرات السيناريوهات الأكثر عبثية، وهي تحاكي واقعاً سياسياً مفرطاً في هشاشته إلى حد بات فيه هشيم المنطقة لا يحتمل المزيد من التأجيج ولا وقت لديه للإنصات إلى الكذب. منذ عقود طويلة وتركيا تلهث خلف هوية تتأرجح بين «الأسلمة» بوجهها الإخواني.. و «العصرنة» بلبوسها الغربي، وعجزت عن التقاطها، فغرّبت وشرّقت في سبيلها من دون جدوى، ولم تدّخر طريقة ولا أسلوباً ولا نهجاً إلا ووضعته على طاولة الحكومات التركية المتعاقبة، وتحول في كثير من الأحيان إلى بند أول على الأجندات الانتخابية للأحزاب والمسؤولين على حد سواء. ضياع الهوية التركية بين غرب وشرق يكاد يلغي ما قد سبق، في وقت لا تتردد حكومة العدالة والتنمية في ارتكاب الحماقة تلو الأخرى وتتلون إلى حد باتت غريبة عن محيطها وبعيدة عن أقرب حلفائها، لا تحتكم في قراراتها ولا خياراتها إلى معيار يمكن الركون إليه، لقياس أو استنباط أوجه الفرق والشبه بين الأحلام التركية، وبين ما تقود إليه رعونة القاطرة الأردوغانية. لا تكفي سياسة الهروب إلى الامام وصولاً إلى الحضن الإسرائيلي للحديث عن مخارج يمكن أن تؤمن بوابات آمنة للتركي تنقذه من مأزق يزداد تفاقماً ووضوحاً مع جملة من الأكاذيب المعتادة في الخطاب التركي، لكنها هذه المرة باتجاه روسيا، وليس آخرها أكاذيبه الملفقة عن استهداف المدنيين في الغارات الروسية التي طالت أوكاراً لإرهابيي أردوغان وزمرته فعاد للنبش في تفاصيل تلك الأكاذيب، مع ما تحتاجه من صيغ قابلة للمداورة أحياناً ورعناء في كل الأحيان، وهي توزع التهديد والوعيد باتجاهات الجوار الأربعة بما فيه الروسي. ثالوث التيه التركي يُحكِم الطوق على منافذ الحديث التركي عن الضمير، وهو الذي أبادت دولته وسلطنته البائدة شعوباً، وارتكبت مجازر عجز التاريخ عن تجاوزها رغم الزيف السياسي، وفشل الغرب الذي دفن ضميره ووجدانه بحكم استعماريته عن تجاهلها أو نسيانها، وعاد مضطراً للتذكير بها بعد مائة عام ونيف، وهو حديث يكفي لنكتشف أي درك وصلت إليه تركيا، في رحلة البحث عن تلك الهوية المتهالكة بين ضمير الإبادة ومصير الإرهاب وحتى تفصل في مسار تلك الهوية سيواجه العالم ما هو أخطر وأكثر عدوانية مما شهدناه، خصوصاً في ربع الساعة الأخيرة التي تسبق إعلان الإفلاس أو الإقرار بالفشل. |
|