تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ضرورة الجمال

ملحق ثقافي
30/6/2009م
روجر سكروتن ترجمة د. علي محمد سليمان

لو سئل أي مثقف في الحقبة الممتدة بين 1750 و 1930 عن الهدف الأعلى للشعر، للموسيقى أو للفن بشكل عام، لكان الجواب دون أي تردد الجمال.

ولو وجه ذات السؤال بشكل أكثر دقة نحو المعنى، لكان الجواب أن الجمال قيمة تضاهي في أهميتها الحقيقة والخير إلى درجة تتماهى معهما. رأى فلاسفة عصر التنوير أن الجمال هو الطريقة التي تتخذ فيها القيم الأخلاقية والروحية العليا شكلاً محسوساً. ولم يكن لأي فنان أو موسيقار أو شاعر أو كاتب رومانسي أن ينكر للحظة أن الجمال هو الهدف الأساسي لإبداعه الفني. ولكن في لحظة معينة من المرحلة التي تلت الحداثة لم يعد الجمال يشكل كل تلك السمات، وببساطة لم يعد هدفاً ومعياراً للفن.‏

في المرحلة الجديدة أصبح الفن بشكل متزايد يهدف إلى التشكيك بالقيم الأخلاقية الثابتة وإلى الاصطدام معها وتفكيكها، وأصبح مفهوم الأصالة وليس الجمال هو هدف الفن الذي يجب تحقيقه مهما كان الثمن الأخلاقي باهظاً. وبالفعل نشأ في هذه الحقبة موقف متشكك من الجمال باعتباره مجالاً تتقاطع فيه رؤى مبسطة ومسالمة للعالم لا تتوافق مع الفن الجدي الذي يسعى إلى مقاربة العالم بطريقة جريئة ومغايرة للسائد. وفي عام 1932كتب الناقد كلمنت غرينبرج مقالة بعنوان “الطليعة والذائقة السائدة” قارن فيها الفن الطليعي لجيله مع الرسم التجسيدي الذي اعتبره بسيطاً ويفتقد إلى أي قيمة ثابتة. ولم يكن غرينبرج يعني بالرسم التجسيدي فقط نمطاً عاماً، بل هو قصد ذروة التطور في هذا الاتجاه في أعمال فنانين مثل إدوارد هوبرونورمان روكويل. إن الفن الطليعي، حسب غرينبر، ينزع بجوهره نحو الصدامي والتفكيكي ويهمل التوافقي والتزييني. ومن هنا نشأت فكرة أن قيمة الفن التجريدي لا تنبع من الجمال بل من التعبير.‏

إن التشديد على فكرة التعبير على حساب الجمال نزعة مستمدة من الرومانسية، لكنها في المرحلة الجديدة أصبحت مرتبطة بحساسية جديدة تنظر إلى الفنان كمعارض للثقافة البرجوازية، وتنظر إلى الفن بالتالي كحالة مناقضة للنظام الأخلاقي السائد. واتضحت هذه الحساسية في إنتاج جيل الطليعة، خصوصاً في فترة ما بين الحربين العالميتين في النمسا وألمانيا في أعمال مثل لوحات جورج غروسز وروايات هنريش مان. كما اتضحت الحساسية الجديدة أيضاً في الحياة الأدبية في فرنسا بعد الحربين في أعمال كتاب كثر مثل جورجس باتيل، جان جينيه وجان بول سارتر. بالطبع كان هناك مبدعون حاولوا إنقاذ الجمال من تبعات التناقض والتمزق في المجتمع الحديث مثل ت س إليوت الذي إعادة لملمة وصياغة الحطام الذي رثاه في “الأرض اليباب”. وكان هناك مبدعون آخرون، خاصة في أمريكا، ممن رفض الموافقة على أن روح الحياة الحديثة تتجلى في حساسية الرفض والتناقض والاختلاف.‏

لكن تلك النزعة نحو استعادة الجمال بقيت خافتة في ضجيج الثقافة الحديثة، وكان مكانها هامشياً في مجمل المشهد الفني والنقدي. سمات مثل التفكك واللاأخلاقية التي كانت تعتبر فشلاً جمالياً أصبحت وفق الحساسية الحديثة علامات نجاح، بينما أصبح السعي نحو الجمال تراجعاً عن مهمة الإبداع الفني الحقيقية. أصبح للفن وظيفة جديدة وموضوعاً مغايراً لإرث كل الحقبات الماضية التي احتفت بالجمال. وهكذا يمكن القول إن حياتنا المعاصرة تتميز بإرث كبير من الاغتراب عن الجمال وبنزعة نحو التشكيك بإمكانية إدراك وصياغة الجميل كموضوع في الفن.‏

وفي المشهد الفني- الإبداعي المعاصر نرى بوضوح بأن كلما لاحت فرصة لاستعادة الجمال، نرى فعلاً مضاداً لتدمير هذا الجمال وتغييبه في مشاهد أو مقاربات تحتفي بالتدمير ولضياع. في هذا السياق تحديداً يعمل الإنتاج الفني المعاصر. في الفن الذي يعتمد على إثارة الصدمة والمفارقة دليل على اغترابنا عن سمات الجمال في الطبيعة البشرية. في السينما المعاصرة أيضاً، والتي تمتلئ بمشاهد العنف والألم الفائض عن الحاجة دليل آخر عن اغترابنا عن الجمال. وفي الأغنية المعاصرة التي تملأ العالم ضجيجاً وعنفاً تتراجع عملية التذوق الموسيقي التي كانت تعتمد على التناسق والهارموني وقابليات الإصغاء، لتكون مجرد عملية استهلاك لثقافة الضجيج العشوائي الذي يفتك بالمدن الحديثة. كل هذه الظواهر أعمال لا تحتفي بالحياة بل تستهدفها.‏

ويمكن القول في سياق هذا الاغتراب عن الجمال أن مهمة الفنان المعاصر تكاد تنحصر في إبداع إطار صلب لصورة مليئة بالتحويرات التي تهمش الجمال وتنفيه من حياتنا. فكيف نتعالم مع هذه الحالة وكيف يمكن لنا استعادة تلك التجربة التي كان الإنسان دائماً يحلم بممارستها، وعي الجمال. قد تبدو دعوتنا إلى استعادة الجمال ساذجة بعض الشيء في عالمنا اليوم، لكننا لا نتحدث هنا عن الجمال باعتباره مجالاً تبسيطياً للتوافق مع السائد أو للتزيين والمسالمة، بل نحن نرمي إلى الجمال كفضاء يمكن من خلاله تحقيق إمكانية التشارك في وعي القيم الانسانية السامية في الخير والحب والحوار وإمكانية الحياة في عالم مضطرب. إن في عالمنا جوعاً جارفاً إلى الجمال، جوع يقف أمامه الفن المعاصر عاجزاً. على الفن أن يستعيد الجمال في هذا العالم، ليس لأن الجمال أيديولوجيا يجب التمسك بها، بل لأنه حاجة إنسانية أصيلة ارتبط إشباعها بالفن وبدافع الإبداع. لقد مضت مراحل عديدة من اغترابنا الجمالي، ولا بد من البحث عن أدوات جديدة لاستعادة الجمال.‏

ناقد أمريكي. عن مجلة سيتي جورنال الأمريكية.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية