تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عيشة ضيقة

ملحق ثقافي
30/6/2009م
قصة: سهيل الشعار

بدأت الغرفة تضيق كلما كبرنا.... يعمل والدي حارساً ليلياً لإحدى الحدائق القريبة من مدرستي ، والحديقة كانت فيما مضى، دون حارس،

وقد ارتأت البلدية تعيين حارسٍ لها بسبب وجود بعض مقتنيات المجلس البلدي بداخلها أثاث قديم ، محركات ديزل ....عربات مصادرة عن الأرصفة والشوارع ....‏

لم نعد نرى والدي إلا نادراً‏

وإذا اشتعلت في داخله رغبة الأبوة ، كان يمر علي في المدرسة ، يطلبني إلى الإدارة .، يقبلني ، وأحياناً كان يحضرلي بعض الفطائر من جبنة وزعتر.‏

صارت حياتي متناقضة في لقائي به.‏

هو يذهب وأنا أجيء ....‏

أنا أنام وهو يستيقظ ....‏

حياتي لاتلتقي بحياته إلا قليلاً....‏

وأحياناً لا أراه في الأسبوع مرة ، أو في الشهر مرة واحدة كالقمر الذي لايكتمل إلا لمرة واحدة فقط خلال شهر واحد‏

أيامي أصبحت كالعتمة،حين يحضر النهار والدي أغيب ....‏

في بعض الليالي العاصفة ،كان يحضر إلى المنزل خلسة ، يضيء الغرفة ،ويوقظنا ،يقبلنا وهو يقول :‏

عندماتكبرين لن تسمحي لي ولأمك بأن نقبلك كثيراً ، أنت وهذا الفصعون....‏

وكان يشير إلى الفصعون ، يأخذه بين ذراعيه ويبدأ بتقبيله على عينيه ووجهه ورقبته .... فيتذمر أخي الصغير الذي لم يتجاوز بعد الخامسة من العطر والورد ، يتثاءب محاولاً إبعاد كومة الشوك تلك عن وجهه....‏

أما أنا فمحاولاتي تذهب وتذوب كقطعة سكر في الماء حيث كانت والدتي تحدق بي وتعبس ، فأبتلع تذمري وانزعاجي .‏

وعلى رائحة التبغ نشرب الشاي معاً ، مع بعض السعال ....‏

هكذا هي حياتي مذ ولدت‏

ضيقة - كما تقول ابنة جيراننا - كملابسها ،ومرة كغصات أمي ، والتي تكاد تخنقنا يوماً بعد يوم .‏

كل شيء في الغرفة نفسها.... الطبخ ورائحة الدخان وشرب الشاي‏

والنوم والغسيل واستقبال الضيوف ....‏

ورغم ضجري وكآبتي، كنت أجد أحياناً بعض العزاء والفسحة لألعب مع أخي الصغير ....‏

وقلّت كآبتي ، وانخفض ضجري ، حين أحضر لنا والدي ذات يوم لعبة أعطاه إياها أحدهم ،بعد أن حمل له أبي كثيراً من الأغراض إلى الطابق السادس في البناء القريب من الحديقة....‏

غسلت أمي اللعبة ونظفتها جيداً ، صنعت لها ملابس أ نيقة ، وقبعة من القش ، فبدت جديدة ،زاهية ....‏

إذا زارنا أحد ما ،كانت أمي تقسم الغرفة ببطانية، نلعب مع ضيوفنا الصغار في قسمها الخلفي الرطب، ونترك القسم الآخر للكبار، ليشربوا المتة والشاي ، ويتحدثوا على راحتهم ....‏

ثم ....ذات يوم ، أخبرنا والدي أنه يستطيع أن يبقى معنا كل يوم سبت....‏

فرحنا ....‏

وبدأنا نعوض مافاتنا من لعب معه، وشيطنه على أكتافه....‏

ويوم السبت الماضي كانت عطلته أيضاً‏

شربنا الشاي معه ، وتشممنا كالعادة رائحة دخانه ....وعند العاشرة اقترحت أمي أن يأخذ أ بي أخي الصغير إلى الحديقة، بينما أنا معها لنحضر الغداء ....‏

فجأة ....تغيرت ملامح أمي ، وشحب لون وجهها وامتقع....‏

أحسست بذلك وخفت أن أسألها....‏

ومع ارتفاع الشمس في السماء ،كانت أمي تزداد هماً ،ويكبر قلقها ككرة ثلج تتدحرج....‏

- أأنت مريضة ؟؟!!‏

تجرأت وسألتها ....‏

بقيت صامتة .... ثم رأيت دمعتين كبيرتين تموجان داخل عينيها ....‏

وبقلق زائد ، وارتباك ارتدت ثيابها على عجل، أغلقت باب غرفتنا الوحيدة ، أمسكتني من يدي وانطلقت ....‏

- إلى أين ؟؟!!‏

سألتها مستغربة ....‏

تمتمت بشيء ماغير مفهوم ....فعدت لأسأل‏

أمي ....إلى أين سنذهب ....ألا تريدين إكمال صنع الغداء ؟؟!!‏

رأيت الدمعتين تسيلان، وبقيت أمي مكبوتة ،وشيء مابداخلها ينتظر الانفجار.‏

لم أكن لأصدق أن لقلب الأم عين أخرى ،ترى من خلالها وتحس ، وأحياناً تتلمس الأحداث وتتيقن من وقوعها.‏

بين ليلة وضحاها اشترينا منزلاً جديداً ، له نوافذ وشرفة كبيرة ....‏

انتقلنا إليه ،ولم نتعذب أبداً في حمل أثاثنا البسيط ....‏

إنما حمل أمي الداخلي كان ثقيلاً ....‏

ثقيلاً جداً ....وأثقل ممايتحمله القلب....‏

اتسع المكان ، لكن الصدر ضاق‏

حوالي ستمئة ألف ليرة ، كان ثمن موت أخي الصغير في صباح ذاك السبت ،تحت عجلات سوداء لشاحنة كبيرة....‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية