تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أسـتروفسـكي الفن أقرب إلى حقيقة الحياة

ملحق ثقافي
30/6/2009م
د. وانيس باندك

كان “ الكسندر نيقولاييفتش أستروفسكي “ /1823 – 1886/ يعتبر أن المسرح القومي يشكّل أحد دلائل بلوغ الأمة سنّ الرشد ،

مثله مثل الاكاديميات والجامعات والمتاحف ، ولذا من الضروري أن يكون المسرح الروسي مسرحاً قومياً .‏

ولكن تأسيس المسرح الجديد يتطلّب “ الريبورتوار “ الجديد . ولما كان أستروفسكي كاتباً تقدمياً وديمقراطياً فقد كان يدعو الى المسرح القومي والشعبي في نفس الوقت ، وكان يقف ضد تكييف المسرح والاعمال المسرحية مع أذواق الجمهور البرجوازي الذي يحاول أن يفرض شروطه غير الجمالية على المسرح . وقد أوضح أستروفسكي أن مهمة المسرح تكمن في تعرية القوى التي تقف حجر عثرة في طريق التطوّر والتهكم من هذه القوى . وقد أعلن أستروفسكي موقفه من المسرح خلال مقولتـه : “ إننا نريد أن نكتب لشعب بأسره “ . وبعد وفاة أستروفسكي كانت الدعوة “ الى الوراء يا أستروفسكي “ فقد وجد جميع النقّاد في مسرح أستروفسكي الفذّ ذي الروح الأصيلة خير معين على مشاكل الحاضر ، وقد كتبت الناقدة ( جوراليفا ) عن مسرح أستروفسكي تقول : “ إن فن أستروفسكي المسرحي في أدبنا هو أكثر تعبير كلاسيكي مكتمل لنفس فكرة المسرح القومي ، ولهذا فمسرحه هو ظاهرة حيّة أبداً للثقافة الروسية “ ولا عجب ان يُقال أن جميع كتّاب المسرح الروسي قد خرجوا من مسرحيات أستروفسكي تماماً كما يُقال أن جميع كتّاب روسيا خرجوا من معطف «غوغول».‏

تميزت أعمال أستروفسكي المسرحية بأنها كانت مشبعة بالتقدمية والديمقراطية والانسانية وترسيخ المثُل الانسانية ورفض الاضطهاد والاستعباد . وأستروفسكي واحد من كبار كتّاب الواقعية في الأدب الروسي في القرن التاسع عشر ، أو ما كان يُسمّى بـ “ الاتجاه الجديد في الأدب “ فقد كان جوهر الواقعية لديه يكمن في “ حقيقة الحياة “ وفي أن يكون الفن أقرب الى الحياة ويعكسها قدر الإمكان . وكان أستروفسكي يشدّد على ضرورة اقتران الحقيقة الخارجية بالحقيقة الداخلية ، وهذا ما كان ذا أهمية بالغة في السبعينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر ، حينما بدأ الكتّاب الروس حملة شعواء ضد مذهب الطبيعية ، الذي رفضه ( سالطيكوف و شيدرين و تولستوي و تشيخوف ) وغيرهم من الكتّاب الروس البارزين . وهكذا فإن أستروفسكي لم يكتفِ بالكتابة للمسرح بل استمرّ يناضل من أجل فصل المسرح عن السلطة التي كانت تحتكره ، ولم يكن ثمة مسارح خاصة في روسيا يستطيع الكاتب عرض مسرحياته على خشبتها .‏

لقد سبر أستروفسكي أعماق الحياة الاجتماعية الروسية ، وحاول رد الاعتبار الى الطبقات والكائنات ، التي يعتبرها المجتمع منحطّة ، وهو يُظهر ضرورة تحرّرها : تارة نساء وفتيات وحيدات، وطوراً الفقراء وحثالات المجتمع وأوجد بذلك تضاداً أخلاقياً مع الأخلاق السائدة . وهو بذلك يملك معرفة عميقة للحياة الروسية ، ومقدرة عظيمة على تصوير جوانبها الاساسية ، بصورة حيّة وكاشفة.‏

في صبيحة الرابع عشر من شباط /فبراير/ /1847/ أنجز أستروفسكي أول عمل مسرحي له بعنوان “ لوحات السعادة الأسرية “ وفي المساء كان يقرأها في بيت /شيفيروف/ ، الذي كان يحب الأخذ بيد المواهب الفتية الواعدة ، ولم يكد أستروفسكي ينتهي من قراءة مسرحيته حتى خيم الصمت المفعم بالحرج ، وفجأة وثب /شيفيروف/ من مقعده واندفع ناحية أستروفسكي وسحبه من يده ، ثم أعلن بحماسة : أهنئكم أيها السادة بهذا النجم الدرامي الجديد في الأدب الروسي ، وللحال انهالت التهاني على الكاتب الشاب من كل حدب وصوب ، حتى أنه لم يجد للنوم سبيلا في تلك الليلة الساحرة ، وقبل نصف عام من وفاته كتب أستروفسكي يقول : “ منذ ذلك اليوم أصبحت أعتبر نفسي كاتباً ، ولم يعد يخامرني الشك أو الريب في موهبتي “ .‏

إن تلك الأمسية أعطته زخماً كبيراً فانكبّ في نفس العام على كتابة مسرحيته “ المفلس “ وفيها يعرّي مجتمع التجار ويفضح الحيَل والمكائد التي تعتبر الناظم الأساسي للحياة فيه ، فالتاجر الكبير /بولشوف/ يقرّر الاحتيال على دائنيه فيعلن إفلاسه المزيف ، وفي نفس الوقت يكيد له وكيل أعماله الذي يفوقه في المكر والدهاء : فيستولي على أمواله وعلى ابنته ايضاً .‏

ولكن الرقابة كانت لهذه المسرحية بالمرصاد ، فلم تسمح بعرضها حتى ان القيصر نفسه /نيقولاي الاول/ أمر بوضع أستروفسكي تحت المراقبة . وتعتبر مسرحية “ وظيفة مربحة “ /1854/ الحلقة الاولى في سلسلة مسرحيات كرّسها الكاتب لموضوع جديد يتناول حياة الموظفين والمثقفين ، وكانت انجازاً فكرياً زمنياً كبيراً في عطاءات الكاتب ، الذي كان يرى ان طبقة الموظفين في روسيا القيصرية كان تشكّل احدى دعائم الاستبداد ، وتعيش كما شجرة اللبلاب عالة على الآخرين ، والآخرون هنا هم الشعب الكادح المثقل كاهله بالمتاعب والمصـائب . كتب أسـتروفســكي “ العاصفة الرعدية “ في عام /1859/ عشية الاصلاحات الفلاحية /1861/ كحلقة في مسلسل مسرحياته المعروفة باسم مملكة الظلام . وقد تكون أكمل مثل على هذا الأدب المسرحي ، والذي يتجاوب مع مقاصده على أفضل نحو . فإن “ كاترينا “ امرأة فتية يخنقها الجو العائلي ، وبصورة خاصة حماتها “ كابانوفا “ وهي متزمتة وعدوانية ، تنطق بلسان القواعد الخبيثة والغبية التي تسجن الوجود في رباط تجاري ، بحيث يتوجب على /كاترينا/ ان تعتبر نفسها راضية لأنها تعيش على حساب زوجها ، ولا يجوز لها أن تتوق الى شيء آخر . ولكن /كاترينا/ ترفض الخضوع . وهي لا تستطيع ان تحول دون تدفق الحياة والهوى في روحها ، وتهيم بجنون بحب شاب من عمرها ، وإذ علمت أنها لا تستطيع تحقيق هذا الحب ، تنتحر . فالانتحار هو مخرجها الوحيد ، والتمرد الممكن الوحيد ضد الحقارة التي تكتنفها . ولا يتبقى لزوجها – وهو ضحية مثلها ، ولكنه دونها قوة – إلا ان يحسدها على انتحارها . فإن الأمر الحي في هذه الدراما ، هو النزاع الداخلي الخطير، وامكانية خلاص ، لا تزال بعيدة . ويجمع فيها أستروفسكي بين مواهب الملاحظة لديه ، وحسّه المجرّب بالبناء الدرامي ، وقدرته على الاتصال بالجمهور ، إذ يجعله يكتشف ويحاكم شخوصاً ، يسهل التعرّف عليهم في الحياة اليومية . وتُعدّ مسرحية “ الغابة “ التي ظهرت عام /1871/ والتي تنتمي الى الفترة الأخيرة من انتاج أستروفسكي من اكثر مسرحياته شهرة ونجاحاً . ويمكن اعتبارها من أغنى أعماله بالانفتاح والمرح ، ففيها تمتزج عناصر هزلية وغريبة – يجسّدها صعلوكان جائعان – بسخف ارستقراطية الريف الصغيرة ، تلك الأوساط النبيلة التي يتحالف فيها الادعاء مع العجز . ويتدخل ايضاً السحر غير المتوقع . إنها لوحة متعددة ، تتألف من أكثر العناصر نمطية وحيوية وصدقاً في روسيا ، ومن أبرزها لوناً ورسماً . وذلك في ضوء فكر ناقد زاخر بالارهاف السيكولوجي . وفي عام /1924/ ، أخرجها /ميرخولد/ في تفسير ثوري ، يرمي ، ضمن مناظير ماركسية ، الى إبراز المعنى التاريخي الحقيقي ، والمرمى لما كان يعيشه الشخوص .‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية