تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


نقد .. تنويعات شعرية بأكثر من نوع أدبي..محمد سعيد حسين كأنه يتنبأ بهذا الوصول !

ثقافة
الأحد 24-1-2016
 علي الراعي

يا أمّه، لا تظلميهْ

ردّي لهُ ما ضاع من حليبه،‏

ثمّ احكمي عليه !‏

ردّي لهُ ما غيّب النسيانُ‏

من ألعابه،‏

حتى يعود فاتحاً يديه!‏

في تنويعات كتابته الأدبية، بقي الكاتب السوري محمد سعيد حسين؛ وفياً للشعر في كلِّ ما أصدر وكتب، حتى وإن جاءت بعضُ إصداراته بغير جنس الشعر. وكأنّ محمد سعيد حسين يُقدّمُ «القصيدة» بلبوساتٍ متنوعة،‏

فهو عندما كتب القصة القصيرة، لاسيما في مجموعته «مكاشفات زهرة الدفلى» جاءت «الحكاية» بكامل شعريتها العالية، ولولا الحدث في القصة لتحولت القصة قصيدةً صرفة، وهو شاعر يُقدّمُ قصائد بالمحكي من اللغة، وهكذا كان شأنه عندما خوّض في «الأقصودة» أو كما يُسميها البعضُ «القصة القصيرة جداً» فمحمد سعيد حسين؛ كان من الكتّاب الذين مزجوا إبداعياً بين القصة والقصيدة الومضتين، ومن ثمّ لا غرابة إذا ما وجدنا «النوعين» الأدبيين جنباً إلى جنب تحت عنوان الشعر، في مجموعته «كأني تنبأت هذا الوصول» الصادرة حديثاً عن دار بعل بدمشق.‏

على طاولةٍ قصيّةٍ،‏

في مقهى عتيق، جلسنا متقابلين،‏

رحلت..‏

ظلُّ إصبعها لايزالُ‏

ينقرُ على الطاولة‏

فما تقدم هو قصة قصيرة جداً، وما تقدم هو قصيدة جميلة، وما تقدم كذلك هو «الأقصودة» كما أصرُّ على تسميتها دائماً، النوع الجميل الذي لايزال يُشكلُّ مساحة وجوده بعد انحسار الحالة التعبوية والاستعراضات التي رافقت تواجده خلال النصف الثاني من القرن الفائت.‏

وبالعودة لمجموعة «كأني تنبأت هذا الوصول «فإن الفعالية الشعرية في هذه القصائد، تكمنُ بالإطاحة بين الأجناس الأدبية، لاسيما بين القصيدة والقصة، وشاغله الذي يكاد الأوحد في كلّ ذلك، والذي يسعى إليه على مدى البياض؛ هو رفع راية الحبّ ملاذاً في وجه الخراب، لأنه بغير الحب، لا يمكن لهذا الكائن الذي يُسمى إنساناً أن يحيا، والشاعر هنا يُحذر هذا «الإنسان» ليتمسك بما بقي من إنسانيته بالحب، حتى لا يكون اليباس الشامل، وهنا الحب بالمطلق، وليس بإضافة الحب إلى مضافٍ إليه، لنتعرف على نوع هذا الحب ومن ثم تخصيصه، هو الحب الذي يأتي كإيمان وسلام يهبط على الأرض الهرمة.‏

لكن راية الحب، التي يرفعها الشاعر كنجاةٍ من الغرق في الخراب، يبدو كصارخٍ في بريّة، ومن هنا يُمكن تفسير هذا الحزن الحارق الذي تنضح به قصائد مجموعة «كأني تنبأت هذا الوصول» فهي قصائد تُسهبُ في توصيف هذا «الكائن» الذي يُدعى إنساناً، مشروخ الروح، وجريح الأحلام المؤجلة، والتي يطول تأجيلها، مع ذلك يصرّ على الحلم الذي يأخذ من الحب نصف حروفه، هنا الإنسان الحالم لكنه الذي يهيمُ على وجهه في براري الله الواسعة بحثاً عن يقين، أو معرفة حقة تُهدّئ الروح القلقة، من هنا أيضاً نفهم ونتفهم الشاعر عندما يزحم نصوصه من مرادفات الحزن النبيل: اليأس، الخيبة، الانتظار، اليباس، الحلم، الكابوس، الشقاء، الحنين، الخوف، وغير ذلك الكثير، والتي تشي جميعها بالخذلان، إذاً الشاعر إن لم يكن هو ذاته، فهو يصف حالة الكائن المخذول الذي تترصدّه الخديعة خلف الباب دائماً. والشاعر هنا، عندما يطلق تراتيل الحزن، وأسراب الخيبة، لا يأتي الأمر تغزلاً وحباً، بل ليسرج خيول المجاز لمحاربتها حتى لانقع في كبوات الاحباط الطويلة، ولعلّ أكثر النصوص التي تُشخص هذه الحالة قصيدة «اقتفاء الأثر».‏

على حائطٍ من خيبة،‏

أثبّتُ مسامير الندم،‏

أعلّقُ عليها روحي،‏

وأخرجُ مهرولاً،‏

في أثر ندمٍ جديد‏

هذه القصائد الحزينة يبثها بمفردات نبيلة من قاموس اللغة، ليأتي هذا الحزن الشفيف المأمول بالحلم، حلم يبقى مشتهى على مدى الليالي والنهارات، حلم يبقى قاب قوسين أو أدنى من التحقيق، ولذلك كانت هذه الحسرة التي توجع، الحسرة التي تأتي كغصة في الحلق، أو ككرات شوكٍ في الصدر، يساعده في تصوير هذه الحالة، ما يُمكن اعتباره؛ لعبة محمد سعيد حسين اللغوية، وهي التركيز على الموسيقا الداخلية، تلك الموسيقا التي تجسدت بغواية «التكرار» تكرار كلمات، تكرار تراكيب، والتناغم بين حروف الهمس والجهر، والإكثار من حروف المدود الطويلة، إضافة للاشتقاق اللغوي من الجذر الواحد. يُتمم محمد سعيد حسين كل هذه الموسيقا في غوايته الأخرى، وهي: اصطياد التراكيب الشعرية الخاصة، تراكيب تزيدُ من جماليتها المشهدية البصرية التي يصبو نحوها في مختلف نصوص المجموعة، بحيث أن ثمة دوائر تتشكل من الإيحاءت التي تتوسع بتآلف ضفتي التراكيب اللغوية والمشهدية، ليكون له مجازه، وبصمته التعبيرية الخاص به، واللافت في هذه التراكيب أيضاً لعبة تبادل الأدوار والمهمات، وحتى الغايات، بين المحسوس والمجرد، ليغدو المحسوس مجازاً مجرداً، والمجرد يصيرُ أقرب للمس الأصابع.‏

وفي الختام اختم بشيء من الحب من شهقات الشعر لدى الشاعر:‏

حين اقتطفتُ من شفتيك‏

تلك القبلة.‏

اكتشفت ..‏

كم كانت علاقتي بالنار ملتبسة‏

alraee67@gmail.com

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية