|
صفحة أولى وكما بات مؤكدا فإن ما يدور من مواجهات سياسية مكملة للمواجهات الميدانية متصلة بالأزمة السورية من شأنه دفع الامور او التحضير لولادة النظام العالمي الجديد المتعدد الاقطاب لا بل المتعدد المجموعات الاستراتيجية التي وان كانت غير متعادلة او متكافئة فيما بينها لاعتبارات شتى، فان وجودها بذاته وقدرة بعضها على رفض الاملاء والتمسك بالحقوق الوطنية والدفاع عنها رغم المصاعب، ان مجرد قيام ذلك كان يكفي للقول باهتزاز الاحادية القطبية ونعيها لاحقا بعد ان خسرت ورقة الفرض بالقوة الصلبة التي انكشفت عن اخفاقات شتى من افغانستان الى العراق ولبنان. لقد انقلب الغرب الى استراتيجية القوة الناعمة بعد فشل الصلبة، متكئا على قدراته الهائلة في الاعلام والاستخبارات والدبلوماسية، فضلا عن الكم الكبير من الانظمة السياسية القائمة على حراسة المصالح الغربية والجاهزة لفعل اي شيء يطلبه منها، واثبت الغرب باستثماراته في «الحريق العربي» قدرات هائلة في التدمير واراقة الدماء بيد الغير والبقاء في وضع المتقنع بأقنعة «الانسانية» و«الحريص على امن الشعوب» وقراراتها المستقلة وحقها في الحرية والديمقراطية. وكان الغرب بالقيادة الامريكية يطمح الى اقتلاع او تدمير العقبة الاساسية التي اعترضت مسيرته في السيطرة على منطقة الشرق الاوسط ومنها السيطرة على العالم عملا بالقاعدة الاستراتيجيــة الذهبيـــة الثابتـــة ان من يمـلك قرار الشرق الاوسط يملك قرار العالم. لذا قرر تفكيك محور المقاومة الممتد من ايران شرقا الى الساحل اللبناني شمال فلسطين المحتلة غربا مرورا بقلعته الوسطى سورية. وفي سياق الهجوم الكوني على هذا المحور وضع الغرب الخطط وحشد الطاقات التي جعلته يعتقد ان اشهرا لا تتجاوز اصابع اليد الواحدة كافية لإسقاط سورية وتاليا محورها لكن الميدان كذب الاحلام، وبعد ستة اشهر على المواجهة دخلت روسيا ومعها الصين في المواجهة سياسيا وكان اعتراض دولي بوجه الولايات المتحدة وبشكل جدي ذو طبيعة استراتيجية للمرة الاولى منذ انحلال الاتحاد السوفياتي قبل عقدين من الزمن. لقد كان الفيتو الروسي الصيني المزدوج على قرار اعده الغرب بتوجيه اميركي بشأن سورية ،قرار يمهد الطريق لتدخل اطلسي فيها، كان بمثابة جرس الانذار لاميركا بان عهد التفرد بالقرار الدولي والنطق باسم ما تقول هي عنه «مجتمع دولي» انه عهد يجب ان تطوى صفحته. ومنذ ذاك التاريخ والعلاقات الدولية تشهد تقدما روسيا بشكل خاص، يثبت مقولة عودة روسيا الى المسرح الدولي كقوة عظمى تطرح نفسها مع حلفائها في مجموعة بريكس وتحالفها مع «محور المقاومة والدفاع» (إيران وسورية والمقاومة في لبنان) شريكاً رئيسياً في القرار الدولى في مواجهة الغرب الاطلسي بالقيادة الاميركية. لكن الغرب العاجز عن العودة الى استراتيجية القوة الصلبة وفتح جبهات حروب يزج فيها جيوشه التقليدية، والمضطرب الى حد ملامسة الخطر الجدي على الصعيد الاقتصادي، رفض كما يبدو التسليم بهذا المستجد، خاصة وان خصومه – فيما لو استقام الامر لهم في اقامة نظام دولي متعدد المجموعات الاستراتيجية – سيقدرون على تجاوز الغرب واميركا في السنوات الثلاثين القادمة نظرا لقدراتهم الاقتصادية ومواقعهم الجيوسياسية وفضاءاتهم الاستراتيجية الحيوية القابلة للتوسع والثبيت السهل . وهنا رأى الغرب - كما يبدو- ان يترجم رفضه بعمل ما يعتمد القوة الناعمة الذكية، التي يكرر فيها ما سماه «ثورات ملونة» او ربيع الشعوب «كـ«الربيع العربي» الكاذب الذي ثبت وبكل تأكيد انه «حريق عربي» يلتهم الاخضر واليابس. وفي التنفيذ، اعد الغرب لكل دولة من الدول الاساسية التي لا توافقه على سياسته اعد ملفا ناعما بدءا بروسيا الى الصين وصولا الى فنزويلا (بالاضافة الى محور المقاومة والدفاع). وكان الاهم لديه الملف الروسي لتأثيره في الأزمة السورية من وجهين رئيسيين السياسي - الدبلوماسي المترجم في مجلس الامن وفي المفاوضات التي تجرى في جنيف حول الأزمة السورية، وعسكري ميداني متصل بما تدعيه اميركا من دعم روسي للجيش العربي السوري في مواجهة المجموعات الإرهابية المسلحة. واختار الغرب اوكرانيا لتفجير «القنبلة الناعمة» بوجه روسيا . ذلك لانها على حد تعبير بريجنسكي: «المفتاح للسيطرة على روسيا إما لتفكيكيها أو لتطويعها»، وقع الاختيار على اوكرونيا التي تشترك مع روسيا بحدود برية طويلة، وتتقاسم معها في الماء المشاطأة على البحر الاسود، فضلا عن وجود عنصر ديمغرافي وديني مشترك بين البلدين يمنع روسيا من التفريط . كما وقع الاختيار على الحقبة الزمنية للتفجير في المدة التي حددت لاجراء المباريات الاولولمبية للالعاب الشتوية في سوتشي، تلك المباريات التي رأت فيها روسيا والرئيس بوتين خصوصا انها فرصة تاريخية لاثبات عراقة روسيا وحضارتها وقدرتها على الانفتاح ومواكبة العصر، فانفق من اجلها ما يربو على ال 50 مليار دولار – ما ازعج اوباما لانه راى فيه عاملا مؤثرا في النجاح - . وهكذا ومع انطلاق الالعاب الاولومبية الشتوية في سوتشي انطلقت «الحرب الناعمة » في كييف مع تصور غربي بان من السهولة بمكان احراج روسيا والانتقام منها عبر المس بهيبتها وتشكيل خطر يتهددها في حديقتها الخلفية وعلى شواطئها ايضا، واحداث وضع سلبي ضدها يمكن صرف تداعياته مباشرة في الأزمة السورية لصالح الغرب. وبمنطق الاولويات وتحديد الخسائر دفعت روسيا او لنقل قبلت ببعض التنازلات من اجل ارضاء المعارضة الاوكرانية المسيرة غربيا، وكانت تسوية مؤلمة وفقا لما رأى فيها الاستراتيجيون حيث تنازل فيها الرئيس الاوكراني (المدعوم روسيا) للمعارضة واعطاها معظم ما طلبت، وقبل بالذهاب الى انتخابات مبكرة في غضون اشهر قليلة. مع انه يعرف ان ذلك اذا تم وبالشكل الذي حصلت التسوية فيه لن يكون في صالحه خاصة مع تهويل ممنهج تَبرع في احداثه منظومات الاعلام التي تتحكم بها الدوائر الغربية والصهيونية، ما يعني نوع من المغامرة الروسية المحفوفة بالمخاطر. ورغم ذلك قبل الرئيس الاوكراني بالامر وقبلت روسيا بالتسوية المؤلمة. لكن الغرب – كما يبدو – طمع اكثر واراد ان يستثمر الليونة الروسية التي اعتبرها ضعفا يمكن البناء عليه والذهاب للاخر، فانقلب على التسوية واندفعت جماعات المعارضة الى القصر الجمهوري متنصلة من الاتفاق مطالبة بطرد الرئيس الشرعي للبلاد فورا دونما انتظار للاشهر الاربعة التي كان تفاهم على اجراء الانتخابات خلالها. لقد شعرت روسيا بان خديعة جديدة حبكت لها، وكان عليها ان تتصرف بما يحفظ مصالحها وحقوقها الوطنية ، فمررت الالعاب الشتوية بايامها الاخيرة وما ان اسدلت الستار عليها في ذاك الاحتفال الحضاري الرائع، الا وخلعت ثوب الرياضة والبروتوكول وارتدت بزة الميدان واتخذت من الاجراءات كل ما يلائم الوضع الخطير، وقررت ان تدافع عن نفسها ومصالحها حتى ولو اقتضى الامر اللجوء الى الميدان واستعمال القوة العسكرية المباشرة. جاء التصرف الروسي ببزة الميدان ليوجه رسالة قوية للغرب بان روسيا غير مستعدة للتراجع او التنازل، وان ما تم من تسوية قبل ايام كان له ظرف املاها، اما اليوم فلم يعد للتنازل والتسويات المؤلمة على الصعيد الروسي محل. ومع المناورات الروسية على حدود اوكرانيا والتحركات الداخلية في جزيرة القرم – التي هي روسية في الاصل مهداة لاوكرانيا منذ 5 عقود فقط ابان الاتحاد السوفياتي الذي كان يضم اوكرانيا – تحركات آلت بشكل او باخر الى نوع من الانفصال الواقعي عن اوكرانيا والعمل مباشرة بالتناغم مع القرار الروسي، يطرح السؤال عن مسار الأزمة الاوكرانية وتداعياتها.خاصة وانه بات من المسلم به ان روسيا لا يمكنها التراجع مهما كلفها الموقف من تضحيات لان الامر بات بالنسبة لها عملا دفاعيا مباشرا، كما انه يطيح بالمكتسبات الاستراتيجية الهائلة التي حصدتها في السنتين الاخريتين لذلك، ونرى ان اوكرانيا قد تتجه في ازمتها في اتجاه مما يلي : 1) اقدام روسيا على عمل عسكري واسع النطاق فيها ينهي الحالة الانقلابية ويعيد الرئيس الشرعي الى سدة الحكم بعد ان عزله البرلمان. لكن هذا الاحتمال محفوف بالمخاطر وقد يتخذه الغرب ذريعة ينسج على مناولها في امكنة اخرى من العالم وهذا ما لا تريده روسيا وليس في مصلحتها ايضا سواء على الصعيد العسكري او على الصعيد السياسي، لذلك نرى ان التدخل العسكري الروسي المباشر في أوكرانيا مستبعداً. 2) تقسيم اوكرانيا بين شرق وجنوب غني يدور في الفلك الروسي، وغرب وشمال فقير يلتحق بالقرار الأوروبي، وهذا لامر يريح روسيا ويزعج الغرب الذي لن يستطيع تحمل أعباء دولة فقيرة يلقي أمرها على كاهله، كما انه يتناقض مع تفاهم بودابست للعام 1994 بين روسيا واميركا وبريطانيا حول ضمان وحدة اوكرانيا. لذلك فاننا لا نرى اللجوء اليه امرا سهلا ولكنه يبقى غير مستبعد. 3) استمرار روسيا بوضع اليد على شبه جزيرة القرم بشكل مرن، والضغط على السلطات الانقلابية في كييف لحملها على التراجع والدخول في تسوية تحفظ المصالح الروسية من جهة وتحقق للغرب شيء من مصالحه في اوكرانيا دون الوصول الى ليِّ الذراع الروسي. وهذا الامر هو الاكثر احتمالا في ظرفه الان لحاجة الجميع اليه. 4) استمرار التخبط والتأجج في الملف بكامله وربطه بملفات ساخنة اخرى في العالم كالملف السوري وغيره، وجعله عنوانا للبحث عندما يحين زمن التسويات الدولية واعادة تقاسم النفوذ عالميا. نقول بهذه الاحتمالات مع استبعادنا كليا قبول روسيا بواقع في اوكرانيا يجعل موسكو تحت رحمة القبضة الاطلسية، وعجز الغرب اصلا عن مواجهة عسكرية او تحمل أعباء اقتصادية من اجل أوكرانيا، كما وعدم امكانية المقايضة بين سورية واوكرانيا لان قرار سورية لن يكون الا في يد حكومتها القائمة التي تدافع عنها بكل جدارة مدعومة بمحور المقاومة والدفاع المطمئن الى نتائج المعركة الدفاعية فيها. |
|