|
ثقافة
حتماً تصيبك حالة من ذهول وتأمل لهذه الشخصية التي يبتكرها الروائي أمير تاج السر في عمله (العطر الفرنسي).. وحتماً ستقف في صف المستشرق الاسباني رافائيل أوتيجا الذي دفعه حبه لها إلى ترجمة الرواية للغة الاسبانية، بحسب ما ذكر الروائي على حساب الفيسبوك خاصته مؤخراً.. لتصبح، بكل غرائبيتها، في عداد الشخصيات الأكثر حياةً والأكثر إشغالاً لعقلك ومخيلتك على مر الأيام التالية لقراءتك لها. كم من هالات السؤال تفتح شخصية «علي جرجار».. كم من علامة استفهام تسطر في ذهنك.. شخصية معلّقة ومشدودة إلى حلم يقظة يقودها، نهايةً، إلى الجنون.. ؟ بطعم الكوميديا الملوّنة بالسواد يرسم تاج السر لوحته في (العطر الفرنسي).. كما عادته في مختلف أعماله.. يجعل لشخصياته سمات مزركشة وصفات ضاجة بالحياة.. مفعمة بشغبها المر.. هل يجوز توصيفها بالقول إنها شخصيات (فاقعة).. تعلّم.. تحفر مكانها في ذاكرتك رغماً عنك.. ألا يبدو الأمر ذاته مع (عبد الله حرفش) بطل «صائد اليرقات» المهووس بحلم كتابة رواية.. وماذا عن (لويس نوا) الجسر البشري الذي نقل مرض (إيبولا) من كنشاسا في الكونغو إلى أنزارا الواقعة على حدود السودان.. ؟ يكفي استذكار قائمة أسمائها لتدرك مدى سريالية اللحظة التي يهوى الكاتب النبش فيها استخلاصاً لمجمل خلطته السردية.. في (العطر الفرنسي) وبخلاف «علي جرجار» يظهر كل من: حكيم النبوي صاحب لقب «المايكروفون»، مبروك الموظف الحكومي، موسى خاطر الأمني، منعم الشمعة تاجر الشنطة، زهورات الأثيوبية، فرفور المغني، أيمن الحضاري، عركي صاحب الدكان، حاكم عذابو صاحب الحزب المعارض.. أسماء تذكر بقائمة أسماء أخرى تحمل سمات المكان الذي تنتمي إليه، وهو ما يسعى إلى توظيفه غالباً الروائي، كما في (إيبولا 76) التي اشتملت على شخصيات: عازف الغيتار روادي مونتي، صاحب المصنع جيمس رياك، الكيني أنامي أوقيانو.. وغيرها. مشغول هو تاج السر بتلوين واقع شخصياته- أبطاله.. لكنه التلوين الذي يحيلها دائماً إلى سمرتها الافريقية.. يحاول بما أوتي من فنون السرد، ولو على مدى زمن روائي، انتشالها من واقعها الأسود.. لكن كل حيله وفنون قصّه تُعيدها إلى ذات الأصل والواقع الموجع.. أليست الحياة ببؤسها ومرارتها ما كان سبباً دفع «علي جرجار» إلى الاستغراق المطبق مع حلمه الذي حوّله واقعاً على مقاس عفونة أحاطت بسني عمره كلها.. ؟ ومع ذلك لا يبدو ذاك الواقع الذي يسعى إلى شد الانتباه إليه بأساليبه المبطنة، واقعاً منفّراً.. إنما على العكس.. يجذبك ويخطف حواسك مجتمعةً لتعيد التأمل الدائم بما تقرأ وتتلقى وفق طريقة تاج السر.. السلسة.. التلقائية في رصفها لسيل التوصيفات والوقائع المحبوكة بعناية وبدقة عالية.. وعليه.. يرتاح الروائي ويستقر قلمه إلى أسلوبية الكوميديا السوداء.. ألا تلاحظ، كمتلقٍ، أنه في غمرة نقله لأشد الوقائع مأساةً يعمد إلى السخرية والتهكّم كأداة أكثر نفاذاً وأيسر وصولاً إلى عقل القارئ.. ألم يفعل ذلك بنقله لفظائع المرض (إيبولا) ؟ وأي شيء أكثر إيلاماً وأشد وجعاً من وصفه لحال بطله «علي جرجار» الذي غرق بكامله في حلم يقظته محوّلاً إياه إلى واقع يحيا مختلف تفاصيله.. ما هذه المرارة التي تجعل المرء يلوذ بحلم، بأصله ليس أكثر من وهم، دفاعاً عن بقية باقية من العمر. يقول: «كنت منتشياً بشدة، يدق قلبي بعنف، وأنا أرتب بيتي للحدث الكبير، عقد قراني على الفرنسية حتى لو كانت صورة، حتى لو كانت خيالاً. كنت ممتلئاً بالعشق حتى القاع، ولم تعد لي طاقة لانتظار أولئك الأفارقة غريبي الأطوار إلى أن يفلتوا المرأة التي انتظرتها زماناً، فأنا الآن أمتلكها.. وأمضي بها لمستقبلٍ جديد.». مجرد خبر يصل إلى مسامع «علي جرجار» باحتمال وصول فرنسية إلى حي غريب الذي يقطن به.. يجعله يقع بغرامها.. هكذا يخيط قصة عشقه لها ويفصل حكاية حبه معها على هواه.. مصدقاً ومندغماً من قمة رأسه حتى أقمص قدميه بوجود هذه الحبيبة ليصل إلى خاتمة مأساوية.. تنتهي به إلى الجنون. في كل مرة تقرأ عملاً من أعمال تاج السر.. ستزيد قناعتك بأنه يهوى السير على حدود أمينة للسرد الروائي المشبع بهالات الأقصوصة.. وبـ (عطره الفرنسي) هذا أو بمختلفت نتاجاته الأخرى تراه ينثر عطوراً تمتلئ بعبق السمرة الأفريقية.. معه الواقع ينضح وقائع بتلاوين سحرية سمراء. |
|