|
لقاء وهنا, نروي قصة عن الفنان الرسام (ميكائيل أنجلو) الذي عندما صوّر في لوحته (الجحيم) أحد الكرادلة الذين كان يكرههم. احتج الناس على ما قام به لدى البابا , الذي لم يملك سوى الإجابة: » أستطيع كل شيء في مملكة السماء, أما في مملكة الجحيم, فليس لي مع الأسف أي سلطان«!. فمن الضروري أن ندرك أننا لن نفهم الفنان إذا اعتبرناه إنساناً عادياً- يخضع للناس والعادات والعرف والسلطات والمصالح المشتركة. وشتى مواصفات الجماعة, ذلك أن الفن حرفته, وتفكيره أشبه بحوار مع عبقريته الخاصة من خلال لغة الحرفة التي يتقنها. بهذا المعنى يمكن القول( إن الفنان مخلوق انعزالي) بأفكاره التي تصدر عن ذاته لا عن ذوات الاخرين لكنه في الوقت ذاته مخلوق إنساني كلي- فهو صديق للجميع أكثر من أي إنسان آخر. فما يقوم به من صناعة أفكار يجعلها تتحدث إلى كل إنسان. هو تجسيد لصور وأعمال فنية وأفكار ناطقة تنبع من أعمق أعماق وجودنا كبشر نشعر ونعجب بالجمال مثلما تسحرنا السماء والبحر والطبيعة وعشق كافة الأشياء الرائعة... خلال عملية الصناعة التي يقوم بها الفنان, يمر بصراعات دائمة خلال انتقاء المواد التي سيصنع منها مادته ذلك نتيجة ما يتطلبه الفن من جهد وتدريب شاق ومهارة ممتازة فالقصيدة الرائعة كانت عبارة عن ألفاظ هي مشروع قصيدة لا تستحيل إلى حقيقة واقعة إلا بعد الإنتهاء من نظمها ,كما أن اللوحة الجميلة لا تتوضح معالمها إلا عندما ينتهي الرسام من انتقاء أجمل -وأنسب الألوان وأجود المعاني القادرة على إضفاء روعة في الصنع- التمثال الذي ينحته الفنان أيضاً لايمكن أن يبهرنا فتعشقه قلوبنا إلا بعد أن تمضي اليد التي استطاعت خلقه بمعول الفنان براعتها بخلق معجزة تحويل الحجارة الجامدة إلى حياة.. إذاً- الفن ليس حلماً أو تأملاً وتصورات فارغة, بل هو صناعة وتحقيق وتنفيذ. ومن يتوقع بأن يكتب أو ينحت أو يرسم ما يمليه عليه شيطان إلهامه. فهو واهم لأن الفنان يصارع مواده لغة كانت أم حجارة أم ألواناً إنه الصانع الذي يجبرها أخيراً أن تنثني وتلين فتطاوع إيقاع أفكاره -حرفته هذه الأفكار التي لاتكون واضحة المعالم أو مسبقة الإعداد للصنع إلا بعد أن يكون العمل الفني قد اكتمل بشكل نهائي.. وهكذا , بعد اكتمال صناعة العمل الفني. فإن الفنان هو أول المتفرجين طبعاً بعد أن يكون قد عاصر جميع مراحل تطور العمل حتى اللحظة الأخيرة التي ينتهي فيها, فيقف فاغراً فاه مندهشاً. متعجباً!! وهو لولا قدرته وإيمانه بأدواته بل وبعشقه للحرفة سبب إبداعه, ما قدم للبشرية أعمالاً فيها من فنون الإبداع والروعة , ما جعلها تخلده على مر التاريخ . وإذا كنا ننكر على الفنان انصرافه إلى تأملاته وانفعالاته في كل ما يقدمه من فنون. فإنه ينصرف قبل كل شيء, إلى الموضوع نفسه.. موضوع صناعته وحتى لو نسبنا له صفة التأمل. فإن تأمله يكون ملاحظة أكثر مما هو حلم يقظة إنه يتأمل ما سيصنع. فيحضر أدواته- وبعد القيام بالصناعة لما لاحظه- يعود ويتأمل ما صنعت يداه. أملاً أن يجد مصدراً وقاعدة لما سوف يقدم على صناعته من جديد. وقد يستسلم الفنان للإلهام لكن المادة سرعان ما تأتي فتشعره بالحذر والفطنة ليتأكد لنا أن المخيلة المتسكعة في عوالم الإبداع . لا تعرف إلا الأمل والتمني الذي تنفذه اليد الصانعة بأمرٍ من نداء ( موضوع الصنع). وها هو الفيلسوف الفرنسي( آلان) يعكس فلسفته ونظرته للفن معتبراً أن الفنان يسير جنباً إلى جنب مع( رجل الإصلاح ) و( الحكيم) - وأن هؤلاء الثلاثة. لا يعرفون التملق و لايعشقون المديح ولا يخضعون لحكم المجتمع. لكنهم في الوقت نفسه مصلحو المجتمعات لأنهم صانعو الإنسانية. وإذا كان رجال الإصلاح والحكماء نادرين, فمن حسن حظ البشرية أن الفنانين ليسوا بهذه الندرة! لكن الفنان يواجه مجتمعه بقوله: » لا أستطيع أن أكون سوى كما أنا, فليس في وسعي إلا أن أعبر عن ذاتي, وإلا فإنني لن أعبر عن شيء على الإطلاق«. أخيراً.. إنها خطوط عريضة تذكر بدور المادة في صناعة الإبداع- وبأن الفنان ( صانع) قبل أن يكون ( رجل إلهام) ومهما كان من دور للفكر في صميم النشاط الفني فقد أكد الفلاسفة في أكثر من موضع أنه حين تكون الفكرة هي التي تتحكم في الشكل لا تكون إزاء (فن) بل إزاء (صناعة) فقط. |
|