|
جامعات عن إصلاح الجامعات دون الانطلاق من اصلاح لايقل عنه أهمية ألا وهو إصلاح التعليم ماقبل الجامعي الذي يشكل المورد الاساسي لكل العقول والمواهب التي ستتابع تعليمها العالي وانتاجها المعرفي لاحقاً وإذا كانت قلة من المبدعين استطاعت عبر تاريخ العلم والثقافة التملص والانقلاب من محدودية المناهج التعليمية والقائمين عليها, فإن ذلك يشكل استثناء وليس قاعدة, لان الشعوب التي عرفت نهضة حقيقية,كانت تملك مشروعاً علمياً وتعليمياً وإصلاحياً متكاملاً يشمل جميع الحلقات المترابطة في هذا المشروع ولذلك لا يجوز اطلاقاً الفصل بين التعليم الجامعي وماقبله, والانطلاق من واقع التعليم ماقبل الجامعي ورصد مساراته وهذا ما يفضي إلى أن التنويه إلى أن الخطر الاكبر الذي يواجه التعليم في مدارسنا والذي يشكل هاجساً مقلقاً للمواطن السوري أينما كان موقعه, وهو تحول هذا التعليم إلى قطاع تجاري يستهدف تحقيق اكبر الارباح في المال وليس في الانسان, حيث لا يخفي على أحد تموضع شرائح الطلبة السوريين وفقاً للامكانيات المادية لاسرهم في ثلاثة أنظمة تعليمية وهي: 1 مدارس خاصة للفئات الغنية, حيث الاقساط الشهرية تفوق بكثير قدرة أغلبية الاسر السورية على تعليم أبنائهم في هذه المدارس. 2 مدارس خاصة للفئات الوسطى. 3 المدارس الحكومية أو العامة: حيث تمثل الطبقة الفقيرة الرافد الاساسي لطلبة هذا النوع من المدارس. وإلى جانب هذه الانظمة التعليمية تنتشر المعاهد التعليمية الخاصة تحت مسميات مختلفة وهي تستقطب في فترات زمنية محددة أغلب طلبة مرحلتي الشهادة الاعدادية والثانوية هاجسها الاساسي الربح ولذلك تحاول استقطاب المدرسين الذين يحققون بسمعتهم ربحاً اكبر وبالطبع فإن قيمة الساعة التدريسية في هذه المعاهد تبلغ في بعض الاحيان حداً لا يصدقه أحد منا!!! ولعل التدقيق في أقساط الطلبة ودخل المدرسين وأصحاب هذه المعاهد والاعداد المكتظة من الطلاب في كل شعبة سيكشف لنا حقيقة الامر. لاشك في ان التنافس القانوني والعادل لتطوير أبنائنامعرفياً وعلمياً على ارضية تكافؤ الفرص هو امر مطلوب ومشروع ولكن هل هذا التكافؤ قائم فعلاً في ظل الانظمة التعليمية الراهنة?!!!. إن التفاوت كبير بين قدرة الاغنياء والفقراء للحصول على فرص عادلة للتعلم في ظل نظام تعليمي عالي الجودة!! وهذا التفاوت يغذيه تفاوت الثروات والقدرات المادية ونظام الامتحانات ونظام القبول الجامعي,الامر الذي يترك اثره العميق في هدر خطير في الثروة البشرية السورية وضياع العديد من المواهب والقدرات الابداعية في مراحل مبكرة وهذا الاثر يخالف في جوهره الغاية الاساسية لسياسة الدولة التعليمية القائمة على مجانية التعليم في كافة مراحله والزاميته في مرحلة التعليم الاساسي والتي تمثل أهم المكتسبات الوطنية السورية وعلى الرغم من الانفاق السخي للدولة في مجال التعليم ماقبل الجامعي وكذلك التقدم الملحوظ الذي احرزته وزارة التربية في تعديل المناهج وإدخال العديد من المفاهيم العلمية الجديدة التي تساهم في حال توفر الكادر القادر على خلق سلوكيات تفاعلية مع هذه المفاهيم وسط الطلبة, فإن المردودية التعليمية ماتزال متواضعة جداً ولم نلمس تغيراً جوهرياً في المناخ التعليمي والانماط التعليمية السائدة في مدارسنا الحكومية على نحو خاص, لا بل ان المخرجات التعليمية في مدارسنا الحكومية هي في تراجع مستمر ولا يخفى ذلك على أحد !! والسؤال الذي يطرح نفسه:أين تكمن المشكلة وماهي أسباب ذلك ?! لعل أهم العناصر المسؤولة عن الواقع التعليمي الذي نعانيه في مدارسنا هي التالية:الكوادر التدريسية ,الادارات المدرسية, الانماط التدريسية السائدة. حيث مازلنا نشهد مفارقة كبير في مدارسنا وهي ان التطور الذي طرأ على مناهجنا التعليمية لم يشمل القائمين على العملية التدريسية رغم دبلومات التأهيل ورغم إدخال جيش من معلمي الصف (خريجي الجامعات) إلى هذه المدارس الامر الذي يقود إلى السؤال التالي: ماهي الجدية الحقيقية في عملية التأهيل التي تشكل الخطوة الاهم في عملية تطوير التعليم الشاملة لمواكبة المناهج والمفاهيم التربوية والعلمية الجديدة?!! ثم ماهي الحافزية أوالدافع لدى المدرسين أنفسهم لتأهيل أنفسهم?!! لا أحد يستطيع ان يتجاهل ان المستوى المعاشي للكادر التدريسي يشكل التحدي الاهم والعائق الاكبر في وجه عملية تطوير التعليم في المدارس الحكومية لان هذا المعيار حقق فرزاً حقيقياً بين الكفاءات القديرة والمتواضعة في مستواها بين قطاع التعليم العام والتعليم الخاص حيث هذا الاخير استطاع استنزاف أغلب الكفاءات إلى نطاقه نظراً للمردودية المادية العالية التي يحققها هذا القطاع ويشهد على ذلك حال الصفوف المدرسية الحكومية قبل الامتحانات العامة بشهرين وأكثر, حيث يلتحق الجميع بالمعاهد الخاصة والدروس الخصوصية وتفرغ الصفوف الحكومية من طلابها!! ولايقل أهمية عن ذلك واقع الادارات القائمة على إدارة التربية والمدارس في مختلف ارجاء الوطن وهنا نتساءل : هل هناك حقاً معايير موضوعية نعتمدها في اختيار مديري التربية ومعاونيهم ومديري المدارس بحيث تحقق هذه الادارات التطوير المطلوب في التعليم ماقبل الجامعي?! بالطبع سيرفع المسؤولون في وزارة التربية أصواتهم معلنين عن وجود حزمة من المعايير النظرية والافتراضية لمثل هذا الاختيار, ولكن في الآن نفسه لا يخفى على أي واحد منا تقديم العديد من الامثلة عن الادارات العاجزة والفاشلة في مختلف مديريات التربية والمدارس في المحافظات السورية!! أما بالنسبة للأنماط التدريسية السائدة في مدارسنا العامة والخاصة فإنها تعتمد التلقين وتكرس الحفظ الببغائي للمعلومات وقتل القدرة على التفكير والتحليل والنقد والتركيز بانتقائية فجة على معلومات دون أخرى لينسجم الاداء الكمي لادمغة الطلبة مع نظام الامتحانات ومعايير القبول الجامعي (وهذا موضوع مقالة قادمة ), ومثل هذا الاسلوب التدريسي يجعل عقل الطالب مشلولاً, مستقبلاً ليتحول في النهاية إلى آلة عمياء وحيادية تجاه المعلومة التي تسجلها هذه الآلة, وبذلك تتراجع بل تغيب الوظيفة الاساسية للتعليم ماقبل الجامعي وهي بناء منهجية التفكير العلمي عند الطالب وتحفيزه على البحث في جميع مراحل تعليمه, وحتى لا يبدو الكلام نظرياًَ فإنني ادعو جميع القراء والمعنيين بشؤون التعليم لتذكير عدد التجارب المخبرية أوالدروس العملية التي قاموا بها طيلة فترة دراستهم قبل الجامعة. إن الحديث عن النمط التدريسي السائد في مدارسنا ومعاهدنا الخاصة يدفع للتساؤل عن السر الكامن في قدرة مدرسي المعاهد الخاصة على إنهاء المنهاج خلال فترة محددة وبأداء متميز, بينما يعجز هؤلاء المدرسون انفسهم عن انهاء نفس المنهاج في المدارس العامة مع أداء لايحسدون عليه!! وبالطبع دون ان يغفل سلوكيات البعض من هؤلاء المدرسين في الدعاية للانتساب للمعاهد الخاصة وهم مسلحون بشواهد كمية عن الدرجات العالية للطلبة الدارسين في هذه المعاهد,فتتخرب في نفس الطالب الصورة الافتراضية لما ينبغي ان يكون عليه المدرس وبذلك تنسف أهم مرتكزات العملية التربوية وهي احترام المدرس لان كل أنظمة إصلاح التعليم في العالم اعتمدت على وجود مدرسين ومعلمين تميزوا بأخلاقية رفيعة وتحلوا بضمير متميز الاداء مع قدرة مستمرة على تطوير أنفسهم واكتساب المعارف الجديدة. لذلك حتى يكون ناتج التعليم ماقبل الجامعي طالباً مرن التفكير, تحليلي الرؤية, منسجماً مع روح العصر ومسلحاً بالمعارف الاساسية التي تؤهل لاختيار الاختصاص المناسب فإننا نقدم المقترحات التالية: 1 وضع معايير جديدة في تقييم كفاءة المدرسين وتحديد مؤشرات الاداء لديهم وتكريس مفاضلة حقيقية بين المدرسين, أساسها الكفاءة العلمية والاسلوبية والخبرة والمسؤولية, وليس المعايير الاخرى كالعمر والمحسوبية والتي تلغي جوهر التدريس وغايته, على ان تقترن هذه المفاضلة باختلاف في مستويات الدخل والمكافآت فلا يتساوى الذين يتفانون في العطاء مع الذين يدخلون في خانة البطالة المقنعة!! 2 تكريس مناخ تعليمي جديد في مدارسنا قادرعلى خلق التفاعل بين الطالب والجوالتعليمي, وتكريس روح التعاون بدلاً من التنافس للوصول إلى مدرسة متفوقة ومنتجة للتفوق الفعلي. 3 إعادة النظر في نظام الامتحانات الحالي ومعرفة مستوى التمثل الحقيقي للمنهاج الدراسي وللمعلومات التي يتلقاها الطالب بحيث لا يكون معدل درجات الاختبار النهائي هو المقياس الوحيد للتفوق, بل ان يقترن ذلك باختبارات اخرى تكشف الذهنية التحليلية والقدرة على حل معضلات علمية نوعية وتجعل تقويم مستوى الطالب اكثر موضوعية وعدالة. 4 إعادة النظر في نظام القبول الجامعي وخصوصاًفي اختصاصي الرياضيات والفيزياء بحيث نضمن انتساب المتفوقين في الثانوية إلى هذين الاختصاصين. 5 دراسة واقع التعليم الخاص وضبط المعاهد بحيث لا تكون وسيلة استنزاف وابتزاز للاسرة وبحيث يكون الرابح الاكبر فيها الاستاذ والطالب وليس اصحاب هذه المعاهد ودون ان يجمع المدرس بين عمله في المدارس الحكومية والخاصة!! 6 إعادة تأهيل كوادر التعليم الاساسي وتحويل من لايملكون القدرة الفعلية على التدريس وتطوير ذاتهم خلال فترة محددة إلى وظائف اخرى مع الاخذ بعين الاعتبار تحسين الواقع المعاشي للمعلمين باعتبارهم الشريحة الاكثر تأثيراً على مستقبل الوطن, لان المستغرق في همومه الحياتية اليومية سيصبح هاجسه البحث عن عمل آخر على حساب عمله الاساسي إلا إذا كنا نرى في العمل الاضافي للمعلم واحداً من اشكال تأهيل هذا المعلم!! 7 إيلاء التربية الجمالية والبيئية اهتماماً خاصاً وتزويد المدارس بالمعلمين المؤهلين فعلاً في مجال الموسيقا والرسم, بحيث لايتحول الزمن المقرر لهذه المواد إلى فراغ يمارس فيه المدرسون المعينون لتدريس هذه المواد كل شيء إلا الموسيقا والرسم, وكل مايسيء إلى ذوق الطالب وحسه الجمالي, رغم ان اغلب الدراسات تشير إلى ارتباط وثيق بين تنمية الحس الجمالي للطالب وقابليته للتعلم بشكل شامل, وبين أدائه في الرياضيات والموسيقا, وبين الموسيقا والشعر. 8 إعادة تأهيل مدارسنا إنشائياً ومعمارياً في الحدود المتاحة لان الواقع العمراني لأغلب مدارسنا يقتل التفاعل بين الطالب ومدرسته, خصوصاً وان أغلب الساحات المدرسية عبارة عن صحراء من الاسفلت أو الاسمنت وينعدم فيها وجود أي بيئة خضراء وبالتالي يصبح تفاعل الطالب مع بيئته هو تفاعل مع الفراغ وانسجام مع القباحة. |
|