تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


«الوحشية » الفرنسية و«التعبيرية» الألمانية.. حدود التباعد ... والتقارب

ثقافة
الخميس 13-12-2012
تماضر ابراهيم

عندما نريد التعرف على شخصية الفن المعاصر في بداية القرن العشرين علينا أن نذكر ثلاثة فنانين هم: (بول سيزان) و(فان كوخ) و(بول جوجان) الذين ظهروا في مرحلة ما بعد التأثيرية تمهيداً لمرحلة المدرسة الوحشية والتعبيرية على حد سواء.

مدخل إلى الوحشية والتعبيرية‏‏

الوحشية هي عبارة عن ازاحة اسلوبية بارزة في التشكيل الحديث ، تبدو فيها جرأة تتجلى من خلال توظيف مشاكس وغير مألوف للقيم والعلاقات اللونية ،‏

وتجاوز للمفاهيم التقليدية والحديثة حيث يتم فيها استخدم اللون كما هو دون مزج ، وتحتم وجود المتقابلات والمتجاورات اللونية التي لم يألفها أحد، وأول من برز في المدرسة الوحشية الفنان الفرنسي هنري ماتيس الذي اعتبر أن الفن هو (تكثيف الاحاسيس الى مدركات وتكثيف المدركات الى صيغ دلالية ).‏‏

في ذات الوقت الذي ظهرت فيه الوحشية في فرنسا ظهرت في ألمانيا الحركة التعبيرية متأثرة أيضاً بجوجان وفان جوخ، مستمدة من التراث القوطي تهاويله وأشباحه وتخيلاته الموحشة الغريبة، والتعبيرية نقيض الانطباعية إذ يعبر فيها الفنان تعبيراً انفعالياً ، تعتمد على تحطيم المظاهر السطحية للأشياء، حيث يتحول العمل الفني إلى وسيلة اتصال بالآخرين، ناقلاً إليهم مشاعر الفنان وأحاسيسه وأفكاره ورؤيته الخاصة للعالم، ويصبح التعبير أساسياً لإدارة الفنان الخلاقة ومفهومه الفني، من هنا نرى ان الفنان التعبيري لا ينقل موضوعاً جمالياً بل ينقل المشاعر العارمة إزاء موضوع معين ويعتبر مونش من أبرز التعبيريين ومن أشهر أعماله لوحة الصرخة .‏‏

مناخها‏‏

إن هذين التيارين المتمثلين بالوحشية الفرنسية في باريس والتعبيرية الالمانية في درسدن وميونخ بصعوبة تناولهما المؤرخون سعيا إلى تحديد مدى تقارب هاتين الحركتين أو تباعدهما .‏‏

علما أنهما لم تقوما على منهج واضح ، وهما أشبه بالتقاء لعدد من الفنانين جمعت بينهم ميول وأذواق متقاربة، وهذا ما يفسر وجود اختلافات تقنية مهمة ، تنوعت فيها الأساليب الفنية بتنوع مناهج الفنانين ووسائلهم التعبيرية ، بالإضافة إلى طبيعة الاعتقاد السائد لدى الطرفين ، ونظرة بعضهم إلى البعض الآخر ، فكلاهما من فنانين ونقاد يتنكرون لأي تأثير خارجي ،ويدعون الأسبقية، فلم يتردد الفنان الالماني كيرشنر في تقديم تاريخ لوحاته تبريرا لادعائه الريادة ، ولم يتوقف الفرنسيون عن تجاهل فناني الجسر والمراحل الأولى لكاندانسكي وجاولنسكي وماكه معتبرين الوحشية مصدر التعبيرية كلها.‏‏

نقاط التقاء‏‏

بالرغم من المواقف المتباينة إلا أن هناك استنتاجات مهمة منها أن لدى الطرفين خصائص عامة مشتركة كانت قد تحددت بسبب موقفها الواحد من عصر ينتميان إليه ، وانهما ارتبطا بحقبة تاريخية اسهمت في تبديل المفاهيم الفنية العامة ، فالوحشيون والتعبيريون استعانوا بمصادر فنية مباشرة ومشتركة تمثلت بمجموعة من فناني نهاية القرن التاسع عشر ، (فان كوخ وجوجان ومونش)، ولعل ما يجمع بين هاتين الحركتين من سمات بارزة هي ما يتمثل بالتعبير التلقائي المباشر ، والاهتمام بالفكرة المجسدة في أشكال مبسطة ، رسمت خطوطها وأطرها العامة بسرعة من دون تفكير معمق أو تعقيد ، بينما يأخذ اللون أهمية أساسية ، ويقوم مقام الخط في تحديد الشكل والتعبير عن مضمونه ، وهو في معظم الحالات ، لون اصطلاحي مستقل عن الظواهر الخارجية لاشياء العالم المرئي الممثلة التي تحولت في اللوحة التعبيرية أو الوحشية إلى إشارات تعبر عن مضامين أكثر شمولا ، فاللون يوضع مباشرة على اللوحة من دون تحديد أو دراسة مسبقة للمساحة المخصصة له ، بحيث يتحول إلى تعبير تلقائي على احساس الفنان وعلاقته بالعالم الخارجي ، وقد يأخذ هذا اللون أهمية خاصة ، ويتحول إلى جوهر أو رمز في أعمال الفنانين الالمان الأكثر ارتباطا بالموضوعات المصورة اللاواقعية ، الأمر الذي قادهم إلى استخدام القيم اللونية المستقلة عن طبيعة الأشياء المرئية .‏‏

عودة الفنون الشعبية والبدائية‏‏

وقد يلتقى هذا الاسلوب المباشر في التعبير مع الطريقة العفوية التي يتبعها الأطفال في الرسم والتصوير ، كما يلتقي مع جميع الفنون المسماة البدائية ، الخاضعة لهيمنة الحس لا العقل ، والباحثة عن التعبير الآني والمباشر لا عن التكامل والبناء المطابق لمظاهر الطبيعة ، وبفضل هذا التوجيه العام الذي شهده القرن العشرون ، منذ بداياته ، بات من الممكن الحكم على تصوير الأطفال ، جماليا ونفسانيا ، وإعادة الاعتبار إلى الفنون الشعبية والبدائية .‏‏

تباين في الرؤية‏‏

ولكن رغم الميزات العامة المشتركة بين الوحشية والتعبيرية، هنالك تباين كبير في الرؤية كما في التقنية ووسائل التعبير ، مصدره اختلاف التقاليد والظروف التاريخية والاجتماعية التي ارتبط بها كل من التعبيريين الالمان والوحشيين الفرنسيين فالفنانون الالمان جعلوا من العمل الفني تجسيدا للشعور والدلالة والرمز ، بينما عرف الفرنسيون بالطلاوة والظرافة .‏‏

ولعل أحد مصادر هذا التباين بين ممثلي التعبيرية والوحشية هو أن الفنانين الألمان أعمالهم تبدو متطابقة مع غنائية الطبيعة الرومانسية ، وعارياتهم هي اجابة عن السؤال الكامن طوال القرن التاسع عشر ، ولكن رغم هذا الموقف من الموضوع الأكثر عمقا وجذرية من مواقف معاصريهم الفرنسيين ، فإن اجاباتهم لم تكن احيانا أقل سطحية لان عجزهم عن تقصي الامور بعمق حقيقي كان يموهه اسلوب تأثيري غامض لم يكن سوى ظاهرة خاصة ، وضارة بالتقاليد الالمانية ، وثمة ظاهرة أخرى قد اشار اليها فستاتر ايضا وهي ان الوحشية الفرنسية لا تمثل سوى فترة قصيرة جدا داخل حركة التطور الفني العام ، لان ممثليها كانو قد تخلو عنها باستثناء فان دونغن وروون وتحولو الى تيارات فنية جديدة ، لذلك فان اسهامهم في تطور الحركة الفنية العامة أكثر أهمية من اسهام التعبيريين الالمان الأوائل وبخاصة اولئك الذين احتفظوا طوال حياتهم بالطابع التعبيري .‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية