|
دراسات ألا وهو إعلان استقلال إقليم كوسوفو, هذا الإعلان الذي يشير إلى أن عملية الإجهاز على الاتحاد اليوغسلافي السابق لم تأخذ بعد شكلها النهائي, وربما كان هناك أجزاء أخرى من هذا الاتحاد لم ينلها سكين التمزيق حتى يومنا هذا, لكن هذا لايعني بحال من الأحوال أنها ستكون بمنأى عن التقسيم أو ستهرب بجلدها من نصله الحاد. كان على الاتحاد أن يتمهل في قراره بإرسال بعثة تضم مايزيد على ألفي مراقب وشرطي مكلفة مهمة ضمان مرور إعلان الاستقلال بهدوء بعيداً عن حوادث شغب قد تجد المجال مناسباً لتعبر عن نفسها في هذا الإقليم الذي انتظر طويلاً شروق شمس الاستقلال, وكان له ما أراد وظفر بماظل يحلم به زمناً طويلاً, كان حرياً به أن يقرأ مابين السطور, ثم يقرر بعد هذه القراءة المتأنية الخطوة التالية التي ينبغي عليه القيام بها. مابين السطور يشير إلى أن هناك منتجاً أميركياً يبحث عن أسواق جديدة ليفرض نفسه على الواقع السياسي ليس في أوروبا الشرقية فحسب بل حتى في أوروبا كلها بمافي ذلك أوروبا الغربية الأمر الذي يعني أن القارة العجوز تشكل في نظر مدبري المكائد السياسية الأميركية سوقاً كبيرة لايمكن التغاضي عن أهميتها لتسويق هذا المنتج الذي كتب عليه بأحرف كبيرة ( التقسيم) وبأحرف صغيرة ( صنع في الولايات المتحدة الأميركية). ولقراءة تطور الأحداث لا بأس من العودة إلى اللحظة التي شهدت تفكك الاتحاد السوفييتي السابق وزوال المعسكر الاشتراكي, وما تلا تلك اللحظة من تداعيات فرضت حضورها على المشهد السياسي في أوروبا الشرقية. الاتحاد اليوغسلافي أصبح أثراً بعد عين, بتفكك الجمهوريات الست التي كانت تشكله, وعندما أصرت صربيا أكبر جمهوريات هذا الاتحاد على الدفاع عنه حتى الرمق الأخير, أو الدفاع عن أشلائه وشظاياه بادرت الإدارة الأميركية إلى تسويق مقولة ( صربيا الكبرى) وادعت أن الرئيس الصربي السابق( سلوبودان ميلوسوفيتش) هو مخترع هذه المقولة والأب الروحي لها, فقررت تكليفه دفع ثمن غال لموقفه المتشبث بوحدة تراب بلاده, وكان أن قدمته إلى محكمة جرائم الحرب ليعلن عن وفاته في ظروف غامضة, وسبق تقديمه للمحاكمة تعرض صربيا لضربات جوية شنها حلف شمال الأطلسي ( الناتو) استمرت قرابة تسعين يوماً. ثم جاءت الفقرات التالية للعقاب الأولي فتحركت فجأة النزعات الانفصالية في الأراضي الصربية وطغى موضوع استقلال إقليم ( كوسوفو) ذي الأغلبية الألبانية على ساحة الأحداث, ودفع بالأمم المتحدة لترسل مبعوثين أمميين للوقوف على حقيقة الأمر في الإقليم, وليقدموا تقارير تضمنت توصيات بإعلان استقلاله وقطع ماتبقى من الحبل السري الذي كان يربطه بصربيا. المقدمات كلها كانت توحي أن الانفصال جنين سيخرج إلى الواقع بعد أن يكتمل نموه والمفارقة في الموضوع أن جنين الانفصال لبث تسع سنين في بطن الأحداث الساخنة التي كانت تعصف بصربيا لاتسعة أشهر فحسب!. وما إن أعلن برلمان ( كوسوفو) استقلال الإقليم حتى سارعت الدول الدائرة في الفلك الأميركي إلى مباركة هذه الخطوة التي رأتها بريطانيا هامة, وأعلنت فرنسا دعمها لها, وكانت الفرحة الكبرى من نصيب ألبانيا, أما صربيا فصرحت على لسان مسؤوليها أنها لن تعترف أبداً باستقلال كوسوفو, بينما دعت روسيا مجلس الأمن لعقد جلسة طارئة يتم خلالها مناقشة هذا الموضوع الذي رأته موسكو خطيراً إلى حد بعيد. وبينما كان أهل كوسوفو يغنون ويرقصون فرحين بنيل الاستقلال الذي كان حلماً بعيد المنال بالنسبة إليهم, أخذت تداعيات هذا الزلزال الأوروبي الجديد بالظهور مباشرة, فقد صارعت كل من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية إلى العزف على وتر الانفصال عن جمهورية (جورجيا) التي عدت ذلك الفعل تحريضاً من قبل روسيا كرد حاسم على الغرب الذي بارك انفصال (كوسوفو).. إن قراءة الأحداث قراءة متأنية تكشف النقاب عن تاريخ الحركات الانفصالية في أوروبا الشرقية,وتضع الدليل الراسخ أن هذه الحركات ظهرت إلى الوجود بتحريض أميركي ورعاية مباشرة من (واشنطن) التي تريد إشغال أوروبا بحمى النزاعات والانقسامات, لأنها لاتريد أن ترى الولايات المتحدة الأوروبية وقد ظهرت إلى الوجود كدولة ستجلس مع (واشنطن) على طاولة واحدة لتقول لها لن أسمح لك بالانفراد بقيادة العالم إلى مالانهاية, والولايات الأميركية تعرف أن هذا اليوم آتٍ بعد أن تنجز أوروبا وحدتها السياسية ولاسيما أنها أنجزت وحدتها الاقتصادية على نحو يثير القلق في قلب (واشنطن) التي باتت تحسب للغد الآتي ألف حساب. دول أوروبية كثيرة مرشحة لأن يمتد إليها السكين الأميركي من خلال إذكاء النزعات الانفصالية, فقد تحرك مثلاً الالزاس واللورين في فرنسا, الباسك في اسبانيا, بافاريا في ألمانيا, قد تحركت هذه الأقليم والمناطق لتطالب بالانفصال عن دولها, فهل ستدرك أوروبا أن النزعات الانفصالية نار أميركية الوقود والصنع وأن (واشنطن) تريد لها أن تطوق بألسنة لهبها أوروبا كلها?!.. |
|