|
كل أربعاء ويستحضر فصيلة الدم الواحدة, فيودعها في مصارف المقاومة, كلما هبت الريح الصفراء, على الحدود الجنوبية, وانتشرت في السماء خيوط الدخان الأبيض, منذرة بالغارة القادمة, في مكان ما من سفوح جبل الشيخ إلى قلاع الفينيق على سواحل صور. القادم من بيروت, والعائد من دمشق لم يألفا بعد هذا الضجيج المسعور الذي ينادي بافتراق الخطا, واقتسام الدروب, وفرز الميمنة والميسرة في القلب إلى ضدين يتصارعان, وهما لم يتعودا بعد على تلك الفلسفة البهيمية, التي تحلل للإخوة أن ينهشوا أكباد إخوتهم, ويوغلوا في دمائهم في الصباح والمساء, وهما لم يفهما بعد سر هذا الانشطار العبثي الذي تحوم السكاكين حول أشلائه, ليكتمل مشهد الفاجعة. مازال القادم من بيروت, والعائد من دمشق معاً, ينهلان من خزان واحد للذاكرة, ويكتبان أطروحتهما المعاصرة بأصابع واحدة, ويعجنان خبزهما في إناء واحد, ويتناوبان على الشرب من مياه نهر العاصي, بجرار واحدة, ويعزفان على أوتار الرحابنة, ومقامات صباح فخري, كلما طلع الصباح, وكلما حطت أستار الليل. لم يتغير شيء على القادم من بيروت في الغناء الدمشقي, لا نحاسيات سوق الحميدية, ولا بروكاره اللامع, ولا فخاريات الأرصفة, ولا المزاهر والثريات, ولا الإكسسوارات الفضية, ونباتات الزينة, وروائح الياسمين, لم تتغير وجوه الأصدقاء ولا المنابر المشتركة التي تناوب عليها جوزيف حرب وعلي الجندي, ولا الأعمدة الصحفية التي يتقاسمها البيروتي والدمشقي, ولا الحوارات الحميمة التي ينقلها الفضاء عبر الشاشة الصغيرة إلى العالم, كأوراق ثبوتية لصوت واحد في صوتين, ووجه واحد في وجهين وخيارات تتعدد لكنها لا تتناقض في مطلق الأحوال. سوف يجد العائد من دمشق إلى بيروت, كل ما حفلت به الفترينة الدمشقية, وما لم يجده فيها لكن شيئاً واحداً سوف يصدم بصيرته, ويشعل هواجسه, ويؤرق ليله, وهو يقترب من ذلك العبث الذي تلاعب بالنسيج اللبناني, واخترق جلده, بأصابع خفية, سلكت دربها بين الروح والروح كمكائد الشياطين, فشطرت المدن والأحياء والمنازل وأحلام البشر, وألبت العيون على حدقاتها, واللسان على لغته, والسلاح على سلاحه, والمؤمن على إيمانه. وطن رائع وجميل وصغير بحجم فسحة سماوية زرقاء, دقت أبوابه الفتن منذ أكثر من ثلاثين عاماً, وتجاذبته ارتدادات الزلزال الكوني, من كل الجهات, فسال له لعاب الصهاينة كطريدة في رحلة صيد, وحين اهتدى إلى خياره, وامتشق رمح المقاومة, وذاق حلاوة الانتصار, امتدت إليه من جديد الأصابع القذرة, التي تتغلغل اليوم فيه وتلعب بمصيره تحت عناوين ممجوجة تروج لها اليوم ممالك إعلامية تنتشر في عواصم الدنيا كالفطور السامة. وطن رائع وجميل وحر وسيد ومستقل, تصادر حريته وتنتهك سيادته, ويدخل استقلاله في مزاد أممي, فيصبح فيه المهرج مبشراً, والقاتل ضحية, والبطل مارقاً, والثعبان حمامة بيضاء تغمغم بنشيد السلام. فعلت السفارات فعلها بين اللبنانيين, فتواطأت على خضرة الجبل وزرقة البحر, ثم انكفأت, ودب الشلل في أصابعها, وحارت من أين يؤخذ لبنان, وتغلق الطرق في وجه الذاهب إلى دمشق والعائد منها, فيصبح هذا الوطن الصغير أي شيء آخر ماعدا آن يكون لبنان, ويصبح سكانه أي شيء آخر ما عدا أن يكونوا عرباً, وتصبح ديمقراطيته سماً وعسلاً في زجاجة واحدة. في ساعات الحيرة هذه, التي تغل الأصابع القذرة, وتحول دون إكمال مهمتها في النسيج اللبناني, مازال الطريق بين بيروت ودمشق سالكاً, ومازال القادم من بيروت إلى دمشق, يسرح في سوق الحميدية ويقتني النحاس والبروكار الشاميين, ومازال العائد من دمشق إلى بيروت يحمل على ثيابه روائح الياسمينة الدمشقية, وفي مخيلته صور لوجوه دمشقية يشترك معها في فصيلة الدم الواحدة. |
|