تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ادعاءات

معاً على الطريق
الأحد 29-4-2012
مصطفى المقداد

تناثرت كلماته في أرجاء المقهى، وهو يغادر على عجل متوتر الأعصاب فاصطدمت كلماته بالجدران الصفراء، وتردد صداها في كل الاتجاهات ليستعيدها رجع الصدى في تداخل يخفي كثيراً من أصل الفكرة التي لم يستوعب جوهرها غير قلة من المجموع الذين كانوا يتجمهرون حوله محاولين التقاط كل ما يتفوه به من حرف أو زفرة يطلقها وهو يلعن أو يتحسر..

«تلك المرأة التي تدعي أنها أنجبتني لم تقو على تأديبي وتربيتي وتركت تلك المهمة للشارع المكتظ بالمارة ممن تفوح من أجسادهم روائح العرق النتنة».‏

تلك الخلاصة التي استطعت أن أجمعها وألتقط مفرداتها من بين الكم الكبير الذي قاله الفيلسوف الذي يتقمص إحدى شخصيات شكسبير أو موليير أو توفيق الحكيم وربما يظن أن أرواح علي بن الجهم وطرفة بن العبد وعروة بن الورد ما زالت تسكن جسده الذي هده السهر والشراب والتدخين والقهر..‏

تلك المرأة التي تدعي أنها أنجبتني رمت بجسدي بين الضواري والوجوه التي لم تفجرها الطفولة يوماً بالبراءة والضياء.‏

وتخلت عن مهمتها الأساس في بناء وجداني وسريرتي ودواخلي بشكل سليم، تاركة تعليمي لغابات من الأشواك البرية والمتوحشة، تلك الغابات الخربة التي تتكاثر على أطراف أرض يباب، فتجتمع فيها كآبة المنظر وسوء المنقلب..‏

كانت اهتمامات تلك المرأة التي تدعي أنها أنجبتني مرسخة قبل مولدي لبناء كيان أسروي متحاب ومتماسك، لكنها ما لبثتت أن وقعت في حبائل الشيطان، بعد أن دعاها مرات عديدة لزيارة قصوره ومنتجعاته المتناثرة في غربي بيتنا، والموزعة بين قمم وهضاب متباعدة، تفصلها بحور وآلاف الأميال الصعبة التجاوز والعبور..‏

مسها الغرور ووقعت في شراك القادم الذي يرتدي لباس الحضارة، ويضع قناع المحبة ويبطن حقداً وعداء لكل أبناء تلك المرأة التي تدعي أنها أنجبتني وأنجبت قبلي وبعدي كثيراً، وما زالت تتعهد بإنجاب قوافل أخرى إلى يوم يرث الله الأرض وما عليها..‏

لم يدر بخلد صاحبة الادعاءات بالمسؤولية عن الولادة أن نتاجها سوف يتوزع بين غابات الأشواك وقحط اليباب وملوحة البحار التي لا تحوي كائناً حياً، وبين بعض الواحات المتقطعة بين الصحارى الواسعة.. تاركة لها صعوبة التواصل واللقاء وتجميع جهودها في إعادة إعمار ما انقطع، واستصلاح ما خربته أيادي أصحاب بزات السموكن والياقات الزرقاء والقلوب السود والقفازات الحريرية التي تضغط على زناد المسدس بأعصاب باردة، ودون إحساس برأفة أو شفقة.‏

ويدعي هؤلاء الذين ترى من تدعي أنها أنجبتني بأنهم أصدقاؤها ويمارسون فعل القتل الرحيم، فبين الكثير من أولادها الذين تدعي أنها أنجبتهم مرضى وذوو عاهات متأصلة الأمر الذي يجعلهم لا يستحقون الحياة، نعم إنهم مرضى بحب واحاتهم الخضراء، ومرضى بحب مياهها الصافية، ومرضى بحب أشجارهم وزرعهم ومواشيهم، مرضى بحب الهواء الذي يتنفسونه في واحاتهم الغناء..‏

أرى تلك المرأة التي تدعي أنها أنجبتني تبحث عن خلاص لا تستطيع إليه سبيلاً، وأرى أنها ستدفع الكثير من فقدان لفلذات أكبادها.‏

وأراها تندم يوم لا ينفع الندم، وتستعيد حقيقة حفيدها الكسعي يوم تفقد عوامل استعادة ماضيها، أو جزءاً يسيراً منه.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية