تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مد ير عام...!

آراء
الأربعاء 16/4/2008
ˆ جلال خير بك

تعرفت عليه في أواخر الستينيات, وتمتنت صداقتنا حتى أصبحنا إخوة..وكان أخاً وأباً وقريباً حتى ليغدو عشيرة بكاملها!!

كان مديراً عاماً لإحدى الشركات العامة.. وكان أنظف من الثلج..نظيف الكف والقلب.. صادق في أكثر ظروفه تألقاً: العمال المخلصون (القبضايات) الذين كانوا يعملون عنده في الشركة (الأم) بدمشق.. وكانت له صداقات وأخوة أيضاً مع العديد من العمال الذين يشتغلون في فروع الشركة في المحافظات.. ولذلك غدت شركته -يومها- من أنجح شركات القطاع العام.‏

إذ إنه لم يكن مديراً عاماً فحسب, بل كان من أهم عمالها, تسبق يده في العمل أيدي العمال أنفسهم, فتفانوا في الدأب والحرص والإحساس أن الشركة لهم.. وتباروا في دفع عجلة الإنتاج حتى غدت شركتهم ذات مكانة مميزة.. وكان هو يقف جانباً في المناسبات مقتنعاً أن الاضواء والشكر يجب أن يكون لتلك الأيدي السمراء التي أنتجت وصيرت الشركة إلى ما كانت عليه آنذاك, وكان ينطلق من قناعة راسخة أن الذين يبنون ذلك القطاع وإنتاجه (القطاع العام) هم وحدهم من يستحق التقدير لأنهم صنعوا وبنوا الشركة ومستقبلها.‏

كان يتفقد الغائبين من العمال ويزورهم مع وفد من الإدارة, في بيوتهم حين يمرضون.‏

ولما ترك الشركة وعاد إلى مؤسسته بمرتبة مدير عام: ظل يتواصل مع عماله ويرسخ علاقته بهم حتى لحظة مغادرته دمشق -بعد التقاعد- والسكن في بلدته على تخوم البادية السورية.‏

وكنت أرى بعض هؤلاء العمال حين يصادف أن نمر في إحدى حارات دمشق القديمة -يسلم علىه باحتضان, وكأن هذا المدير العام السابق: أهم من أي أخ لذلك العامل.‏

كان في تلك الفترة يسكن ملحقاً صغيراً في حي عرنوس بدمشق لا يكفيه مع أسرته, وبقي فيه حتى تقاعد وظل ولداه الشابان يسكنانه حتى الآن!‏

ذات مرة حرك صاحب المنزل عليه دعوى إخلاء, ظلت قائمة فترة طويلة حتى أوقفها المالك نفسه!!.. فبعد أن تبدلت الأحوال والدنيا, لم يعد في مقدور (المدير العام) أن يستأجر بيتاً جديداً.. كما أن راتبه لا يسعفه ليشتري منزلاً أيضاً!!‏

إذ إنه لم يشترك في جمعية -لاحقاً- فقد كان راتبه ينوء بأعباء الحياة فكيف بأقساط ودفعات الجمعيات?!! وكان يثق أن الدولة والقطاع العام الماضيين في إنشاء البنية التحتية للوطن, وحاجات المواطنين: لابد في عملهما هذا أن يصله الدور ويأخذ بيتاً مثل سائر العباد!!‏

لكن حسابه و(تخمينه) لم يكتمل ويتحقق, وبقي في ذلك الملحق الصغير جداً الذي ينوء بأسرته وبكثير من الضيوف من أقاربه!!‏

في يوم من الأيام قرع باب (الملحق) وفتح ليجد أمامه مالك المنزل!!‏

- السلام عليكم يا أستاذ.. لي طلب عندك!‏

- وعليكم السلام.. تفضل وأرجو ألا يكون طلبك هو إخلاء المنزل,فليس بإمكاني الانتقال إلى منزل آخر.‏

- كلا.. هل تسمح أن أشرب عندك فنجان قهوة?‏

- تفضل..ودلف مالك المنزل إلى ما كان يسمى لدى هذا المدير (غرفة ضيوف!)..جلس وقال: جئت لأهديك الملحق!!‏

- هل هذه مزحة أو مقدمة لطلب إخلاء جديد?!‏

- لا ليس الأمر كذلك, فقد أوقفت دعوى الإخلاء برضاي واختياري!! لأنني منذ تحريكها كلفت محامياً فبحث لي في مناطق سورية من الحسكة وحتى درعا والسويداء فلم يجد باسمك أو باسم أولادك: منزلاً مملوكاً أو من جمعية أو من الدولة فعجبت أن يكون في البلد (مدير عام) من نوعك, فقررت أن أهديك الملحق!!‏

وتصالح (الخصمان!) وبقي المستأجر في الملحق وخرج المالك راضياً بالأجار, والمستأجر مشدوه, فهل في الدنيا مالك غني يتراجع عن استرداد عقاره المؤجر?!‏

وكان للمدير شقيق يعمل في ايطاليا, وفي زيارته لدمشق علم بالأمر فقابل المالك وطلب منه شراء الملحق لشقيقه, فوافق دون تردد وقال للشقيق:‏

لقد أكبرت في أخيك نزاهته بعد أن أدهشني أن يكون في العالم كله: (مدير عام) لا يستطيع أن يشتري بيتاً فكيف بملحق!!‏

ومن النوادر التي تحكى عن هذا (المدير) أن اشقاءه اشتروا له في بلدته قطعة أرض صغيرة تكفي لبناء منزل, لكن الأمور بقيت في غير صالحه إذ أكل المخطط التنظيمي قطعة الأرض هذه, فمر فيها شارع فاستراح حتى النهاية من الأملاك ومصائبها!!‏

يقلب المرء طرفه اليوم في انحاء هذه المعمورة, فيجد مديرين عمروا فيلات يحيط بها بستان أشجار مثمرة وسور ضخم!! وملكوا عقارات أخرى عدا السيارات لهم ولأولادهم!! وكانوا يوم دخول الوظيفة لا يملكون شروى نقير, فخمنوا من أين أتاهم ذلك!!‏

لله.. هذا العالم العجيب الذي غدت فيه النظافة والأخلاق: سبة أو غباء.. فكثير ما نرى هنا وهنالك, أشخاصاً يشار إليهم على أنهم حمقى أو أغبياء أو حتى (حمير) لأنهم لم يدبروا رؤوسهم!!‏

ولم يثروا على حساب غيرهم: فعاشوا على هامش الحياة مثل (المساطيل) والماء أمامهم مبذول لشاربه!!‏

فهل تصح تلك المعادلة? وهل سمات هذا العصر الاستهلاكي اللعين: هي المعيار لتقويم السلوك والأخلاق?? وهل الأخلاق العامة, الوضعية أم غيرها تقاس بهذه المقاييس التي لا تراعي أمانة ولا واجباً ولا مصلحة للجماهير التي بني البلد من أجلها?!‏

صحيح أن كثيراً من الأخلاق وضعية.. لكن الأصح أنها وجدت لصالح البشر وحفظ حقوقهم.. ولا ندري كيف يستطيع لص أو سارق, أن ينام وأمواله (الحرام) تلسع جانبيه وتحرقهما??‏

وكيف يستوي أن يكون المرء إنساناً ولصاً في آن واحد? وكيف للقيمة الإنسانية أن تنظر إليهما?‏

أرأيت كيف تبعثرنا الأيام يا (أبا دهمان)?.. أرأيت إلى أي مستويات وصل البشر? بل هل رأيت الدرك الذي انحدرت إليه الدنيا? ففي العرف: ما معنى النظافة والإنسان يجوع بينما (الناس) الآخرون يغرفون المال بالرفوش!!‏

أرأيت كيف غدت أحلامنا? وكيف صار ما كنا نتطلع إليه وإلى بنائه? وكما يقال: إن الصمت سيد البلاغة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية