تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الديمقراطية.. فكرة التحول من التخوم إلى الميدان

شؤون سياسية
الأربعاء 11/4/2007
د. أحمد الحاج علي

تستحق التجربة الديمقراطية السورية المتابعة, تستحق ذلك بمعنيين, بمعنى فرادتها وتفردها إذ هي في المحصلة تكاد تكون نسيجاً بذاته ينتمي للمسار الديمقراطي العام

ويحتفظ بين مربعاته بهذه الخصوصية التي تبلورت بالتدريج على مدى ما يقرب من نصف القرن وتستحق المتابعة بمعنى اتصالها المباشر بالموقف السياسي للقطر.ولا يشك أحد أن لسورية في المنسوب السياسي خيارات مستقرة وأولويات معمقة واستجابات مألوفة هي محط توافق الجميع وهي مكمن إصرار الغالبية العظمى على جوهر الدور السوري وضرورته في هذا الزمن الذي تخترق فيه الحياة العربية طولاً وعرضاً أفقاً وعمقاً وتتبدل فيه المعايير إلى هذا الدرك المروع الذي يرى في الاحتلال تحريراً وفي التنوع تمزيقاً, وفي الدين عامل إحباط وتجزئة وفي الاقتتال بطولة لا تعادلها بطولة التصدي للظالم والمحتل والمستعمر, ولا نملك إذاً إلا أن نلتقي بما يشبه هذه الحالة القدرية.‏

إنها ديمقراطية تشتمل على الكثير من عناصر الخصوصية ومصادر السيطرة وملامح التوجه نحو الهدف بصورة مضبوطة ومنضبطة, وما زلت أعتقد أن التجربة في أصلها مشروعة وقوية وذات قابلية للتطور لكن الإشكالية تقع في محورين صعبين:‏

الأول منهما هو الغياب الكامل لمسار نقد التجربة الديمقراطية وباستمرار هناك من يعمم الفكرة القائلة بأن النقد سوف يوصل إلى النقض بعد حين وباحتساب هذه الحالة على أنها من مصدر النوايا الطيبة وبدافع الحرص.‏

كما أنها محاولة متعمدة لتثبيت كل ما أنجزناه مع احتساب ذلك كله فإن المنهج العام والناتج الموصوف حتى هذه اللحظة يعاني إلى أبعد حدود المعاناة من غياب نقد التجربة الديمقراطية أي طرحها على النقاش والحوار ووضعها في مساحة التداول والتحليل واستخراج جوانب القوة والضعف منها وفيها بعيداً عن الحساسيات المسبقة المرهقة والكتيمة وعن ميزان المحاصصة والتوصيف الكمي والانجذاب نحو الشكل إن في الموقع أو في الأداء أو في التداخل مع ما يجب أن يكون عليه الحال وأظن أن التجربة الديمقراطية السورية تتحكم فيها حتى هذه اللحظة عوامل أساسية أبرزها على الأقل ثلاثة:‏

1- عامل الخصوصية بانتسابه للمؤسسة الفكرية التي جاء بها البعث ووجدت فرصتها منذ ثورة آذار ثم تبلورت بصورة واضحة منذ العام ,1970 إن هذه الخصوصية تقفز فوق المعنى الذاتي المحصور والمحاصر ولكنها لا تخرج عن إطار الاقتناع بما تم اختياره والنظر إلى أي تعديل على أنه قفزة في المجهول أو أنه تدخل من أطراف أخرى لسحب نسبة معينة مما هو مطروح في فكر الحزب عن الديمقراطية ولما هو مستقر من أدبيات النظام السياسي في مسألة الديمقراطية.‏

ولذلك وجدنا المتنفس الأكثر أماناً هو في الحديث عن نسبة عدد المستقلين في التمثيل الديمقراطي دون التنبه إلى طبيعة هذا الاختيار والدور الذي يجب أن يضطلع به هؤلاء (المستقلون) ولا أعرف على وجه التحديد حتى هذه اللحظة كيف يتطابق مفهوم الاستقلال هنا مع المسألة الديمقراطية نفسها.‏

هل هو التحرر أو التعديل في فكرة موقع الناس من قيادة الحزب للدولة والمجتمع? ما هو معنى الاستقلال هنا? هل نستطيع أن نتقبل فكرة أنه يعني التخلص من قرار الحزب والابتعاد عن برنامجه مثلاً? هل يعني الليبرالية مقابل الجمود العقائدي, والبورجوازية مقابل الطبقات الكادحة واللاانتماء مقابل الانتماء الفكري العقائدي والسياسي?‏

إذا كان الأمر على هذا النحو فتلك مصيبة كبرى ولأن نقد التجربة غاب أو غُيّب فقد اختلط الأمر على الأطراف كلها, الحزب القائد استمرأ هذا التعديل ما دام يبقي على مصادر القرار والتوجيه في مؤسسته والآخرون من التجار والشخصيات الهلامية أيضاً تشبثوا بهذه الفكرة ما دامت تفتح لهم الطريق للحصول على درجات ما في سلم المواقع الديمقراطية.‏

لكن المأخذ بقي قائماً على هذا الاختيار وهو مأخذ مزدوج يتمثل في تغليب الشكلانية على الجوهر وفي اعتماد الرقم الكمي على حساب الدور والفاعلية.وهذا المأخذ هو محور كل النقاشات القائمة تحت الطاولة, وهو الذي يغيب حينما تتاح فرصة إبداء الرأي تحت الشمس وفوق الطاولة عندها لا نرى نقداً ولا نقع على رأي جريء ولا نقف على قاعدة تصلح للقياس والاختبار في السر الكل ينتقد وفي العلن الكل يوافق.‏

ولقد لا يكون ذلك حالة سلبية بالمطلق لأنه يؤمن على الأقل مشواراً من الهدوء ومقداراً من إعادة طرح الموضوعات في المؤتمرات واجتماعات القيادات العليا رغم أن الثقافة والإعلام والخطاب الديني والخطاب الاجتماعي ودور النخب, لم يصل إلى درجة الجدية في نقد التجربة بل حدث العكس تماماً فأنت قوي ومقبول بقدر ما تسوق وبقدر ما تبدي الرضا عما هو قائم.‏

وباتجاه آخر حدث جور عبر هذه الخصوصية على فكرتي التطور الطبيعي للمجتمع والتنوع الطبيعي لمصادر إغناء التجربة.‏

هناك أفكار قديمة بثياب جديدة وهناك استبدال للتنوع بالتوزع, والديمقراطية في أصلها لا يمكن أن تعيش أو تنمو إلا في حمى المضمون والعمق من جهة والفاعلية في الدور من جهة أخرى, إن ألد أعداء الديمقراطية هو مرض الشكل وهوس البروتوكول وطبيعة الصمت المغلف والمؤجل إلى حين.‏

2- ويتوضح العامل الثاني في مسيرة الديمقراطية في سورية من خلال دور الحزب بما يشتمل عليه من فكر وقيم عقائدية وبرنامج ومناهج سياسية في إدارة الدولة والمجتمع, لعل هذا الاختصاص كان يأتي بدافع الالتزام بمصادر العقيدة والحرص المتفاقم على سلامة الخط والخطا.‏

لقد أنتجت فكرة الحزب القائد كل معانيها التي وقعت بين حدين, حد المشروعية التاريخية والمشروعية من جهة وحد المراوحة في المكان والتمسك بالراهن خوفاً من أي احتمال غير محسوب يؤدي إلى إضعاف التجربة أو ضياعها بالكامل, وأعتقد جازماً بأن ثمة اتجاهات ساعدت على ذلك.‏

* منسوب الفكر العقائدي والسياسي المتفجر والمتعاظم والذي جاء بغالبيته رداً على حالة الانحطاط العربي وضرورة مواجهات التحديات الاستعمارية, لقد كان هذا الفكر في أعلى قممه بحيث هو المطلق والنهائي وغير القابل للتقويم وإعادة النظر وهنا بدت التجربة الديمقراطية, إما أنها مقصرة على الدوام في الاستجابة لمنطق هذا الفكر المؤسس أو أنها ذات أهمية من الدرجة الثانية على جدول أعمال الواقع السوري ومع الزمن تقنن هذا الفكر على صيغة شعارات حاسمة ولاهبة.‏

وفي هذه الأجواء أخذ الظرف حاجته من السماح لعوامل التأثير الخارجي في التأثير على الداخل ونشرت ثقافة استاتيكية أساسها أن المواطن صالح بقدر ما ينسجم مع الفكر ومؤسسته التنظيمية إن أول تعديل جرى على هذا المنطق كان من خلال منهج الرئيس الراحل حافظ الأسد حينما أطلق فكرة تقول كل مواطن شريف هو بعثي, وكل بعثي هو مواطن شريف بل هو يخاطب المعلمين بقوله: أيها المعلمون من كان منكم داخل التنظيم أو خارجه فأنتم جميعاً مسؤولون عن حماية البعث وصيانته وتطويره, مع الزمن وبمنسوب الأداء المترهل للقيادات في الدولة والحزب بقيت فكرة الاندماج في الحزب وحوله وضعفت فكرة المواطن الشريف وما تعنيه من مواصفات وفاعليات وخيارات واضحة.‏

* لقد دخلت في المنهج العام للمسألة الديمقراطية التبدلات التي حملتها المراحل التي مر بها نضال الحزب, هناك حالة اضطراب داخل التنظيم, وهناك توزع متناقض في اختيار المنهج الديمقراطي وكان الكثيرون يطرحون أن المسألة جاهزة ومجربة وما علينا إلا أن نستحضرها بخبرتها وخبرائها من الاتحاد السوفييتي أو أي مصدر مواز.‏

وهكذا طرح في التداول نمط متعدد للمسألة الديمقراطية, الديمقراطية المركزية داخل الحزب بقصد تقوية دور القيادة وإنجاز الضبط اللازم والديمقراطية الشعبية على مستوى تنظيم المجتمع بمنظمات ونقابات وهيئات مدنية والديمقراطية السياسية التي تتضمن الدور المحدد والمحدود للقوى السياسية الحزبية في البلاد, وفي الأحوال كلها كان ثمة تلازم بين موجبات الشعار والتوصيف الطبقي وضرورة الحفاظ على مركزية الحزب في الاستمرار والتطوير وفي الانتقال إلى مراحل جديدة ومهام جديدة.‏

* لقد كانت الإضافة الأهم لهذا المنطق المستقر متمثلة في الرؤى والطروحات التي أطلقها الرئيس حافظ الأسد على واقع الديمقراطية ومسارها لعله كان يؤكد باستمرار في مقولاته على أفكار منها أننا لا نخشى من الحرية وإنما نخشى من غيابها, وأن الحرية التي لا تمارس لا معنى لها, وأن الديمقراطية ونظامها متلازمان بحيث لا يلغي العام مفاصل الهوية ولا تتحول الخصوصية إلى عامل تزييف وانحسار وتحجر.‏

ولعلنا في هذا السياق نعطي الأهمية القصوى لأفكار الرئيس بشار الأسد حيث ربط مصادر الفاعلية والاطلاع بالحياة الشعبية والقواعد الحزبية وحيث أعطى للديمقراطية هذا التجديد كونها تتجه من الآخر إلى الذات ومن المجتمع إلى النظام ومن القواعد إلى القيادات, لكن الرهان ما زال قائماً في كل الأحوال حول مدى جدية المؤسسات والقوى الاجتماعية في تبني هذا المنهج بعيداً عن التزلف وبمنأى عن الحسابات الموضعية والخاصة.‏

3- وتوزع العامل الثالث على محاور معينة أولها هو الركون المتطاول إلى صحة التجربة واكتمالها وكأن الواقع استقر على صيغة لا يغادرها وكأن إيقاع الحركة العالمية السريع والمتسارع هو مجرد شأن خارجي وكأن المهام المطروحة بالتبني في سورية تمارسها جهة ويسقط التكليف عن جهات أخرى وما زالت اللحظة الراهنة تلح على هذا الفهم.‏

قيادة تقدر وتقرر وقواعد تتلقى وتستجيب, حزب يتحرك وفي إهابه تتحرك الأحزاب الأخرى, قيادة للأحزاب تنشط ومجموع الشعب المتنوع يتلهف لاستقبال ما سوف تبوح به هذه القيادة, علينا باستمرار أن نستذكر بأن جهنم مملوءة بأصحاب النوايا الحسنة والمسألة الديمقراطية بذاتها هي جوهر ثابت ينتمي للحرية ومنهج غني متحرك متطور وخيارات مستجدة وإبحار نحو المستقبل ومواكبة لإيقاع الحركة في العالم وقبل هذا وذاك صياغة لمصادر القوة داخل البلد على قاعدة أن الوطن ملك للجميع ومسؤولية بنائه من حق الجميع. وأن أي جزء معطل في الواقع الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي سوف يؤدي إلى خسارة توازنه وتعادله في الناتج الإجمالي للطاقة الوطنية والقومية, لعله في حمى هذه النظرات البسيطة والضرورية كانت تتبلور إحدى أهم قواعد المرحلة الراهنة من خلال الأفكار التي طرحها الرئيس بشار الأسد هناك ابتعاد عن منسوب الخاص ودخول في العام, هناك ضرورة للتقويم وإعادة النظر والتدقيق في الفاعليات على أساس فكري وعلمي متحرر من الوهم المتجذر ومن نزعة الاحتفالية والبروتوكولية ومن مرض الانجذاب للشكل ومن فساد التوزع على الحصص.‏

إن الديمقراطية وسيلة لجمع الطاقة وليست موسماً لمكافأة الباحثين عن الوجاهة والمجد الشخصي الأعجف, إن المقياس يقع هناك في حدود الوطن ومقومات الفاعلية فيه ولا قيمة لأي تحسين موضعي لشروط الفرد هنا أو هناك تحت مظلة أنه يمثل تنظيماً أو شريحة اجتماعية أو قوة جماهيرية معينة, وكما في الديمقراطية لابد من انسجام الوسيلة النبيلة مع الهدف النبيل كذلك لابد فيها من الوحدة العضوية بين النائب (الناجح) أي الذي وقع عليه الاختيار والقرار والمصدر الاجتماعي والسياسي والطبقي الذي يمثله هذا النائب الناجح.‏

الآن من حقنا أن ندقق في المصدرين اللذين سوف يصوغان المؤسسة الديمقراطية التشريعية الراهنة, مصدر الاختيار مصدر المساحة الحرة حيث أصحاب الأوضاع بالفاعليات, ولا أشك بأن الخير موجود ولكن التأشير ضروري على المنهج والمضمون والفاعلية في عالم محكوم بالمنهج والمضمون والفاعلية.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية