تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


يأخذ صفاته من ذاته

آراء
الأربعاء 11/4/2007
نهلة سوسو

في بداية سبعينيات القرن الماضي كنت أتمزق بين الجامعة وقرية في الغوطة اسمها (حزة) حيث علّمت دون خبرة في مدرسة بنات وحيدة,

وقد انهكني ضنى وعناء التنقل سنة كاملة لأن وسيلة التنقل الوحيدة كانت بوسطة هرمة. تبقينا بعد انتهاء اليوم الدراسي ثلاث ساعات وأكثر على الطريق العام, ومع ذلك لم أعدم متعة تأمل عري الشجر البطيء والأمطار الرقيقة ودخان المدافئ ووداعة الصمت والثلج الذي غمر ذات يوم البساتين والدروب وأسقف البيوت المتحفظة جدا.. جدا في تلك البقاع.‏

جمال ساحر, غناه الشعراء بسخاء كان ينسيني عناء عدم قبض أجري إلا في نهاية السنة على طريقة مديرية التربية في التعامل مع المعلم الوكيل في تلك الأيام (مع أنني عملت كي أعيل نفسي وأكمل دراستي الجامعية) ولأجل ذلك حرمت من متعة الحياة الجامعية كما يحصل في أفلام السينما, ومع أنني وبعد مغادرة (حزة) لم أطأ أرضها ثانية, بل يلتبس عليّ موقعها اليوم, ما زالت في ذاكرتي حديقة للثلج النقي وفناء حملت منه باقة ورد بلدي أخاذ العطر, إلى أستاذي عبد الكريم اليافي وبعدها كانت صداقة ومعرفة ونهم إلى قراءة مؤلفاته الفذة في الأدب والفكر بعيدا عن مادة السكان التي كان يدرسنا إياها!‏

بعد ذلك بسنوات كتب الأديب حسن حميد رواية (تعالي نطير أوراق الخريف) وأثار كوامن الخيال عن البساتين المحيطة بالمخيم الذي أقام فيه, حين هجّر من فلسطيننا, وياللخيال حين يسرح ويتجول ويسرق من الحكايات مرة بساط الريح ومرة فانوس علاء الدين.. ربما أكمل دون أن يدري لأنه كتب روايته لسبب آخر, خيط الغزل بدمشق وغوطتها من أيام بشار بن برد إلى أيام نزار قباني ومحمود درويش.‏

أتيح لي بعد سنين زيارة أحد ما في جرمانا ومثل هذه الأمكنة لا يزار إلا لهذا السبب لأنه ليس تدمر ولا قلعة الحصن ولا أوغاريت ولا مطعما في دمشق القديمة.. ومن رأى جرمانا خاصة بعد أن خلعت صورها الأدبية, بقلم حسن حميد, وأصبحت أحد أحياء دمشق? من رأى ذلك الشيء الأول الذي تتميز به الآن ولا يوصف إلا بهول القمامة? ساحة تستقبل الزائر والمقيم على يسار قوسها العالي عشرات الحاويات الطافحة بكل أشكال النفايات, وحولها ما يماثلها بالعدد حاويات قلبت على فمها ولا أحد يعلم أتنام على أطنان من النفايات أم أنها فارغة, تعجز الشروخ والصدأ على حواف جروحها عن البوح بأسرارها!‏

بعد شهور حملتني المصادفة للبحث عن أحد البنوك الفرعية, في جرمانا نفسها حيث مات طفلان ميتة مشرفة, تليق بفرح الطفولة غرقا في مجرور مكشوف لأن سكان هذه الضاحية ينعمون بالعيش في فضلاتهم الواقعية فوق وتحت الأرض.. دخلت الساحة متوقعة أن أراها في أضعف الإيمان خالية مكنوسة, محضرة لزراعة شيء ما.. ولو بعد ثلاثين عاما, فإذا بقمامتها قد تحولت بمعجزة إلى أهرامات, أين أهرامات خوفو وخفرع ومنقرع?‏

الأهرامات هنا تذهل العين بألوانها وأشكالها: أكياس نايلون سوداء, علب فارغة, قشور, كرتون ممزق, بقايا أثاث بائس, حين يهترىء يكشف عن خشبه ومساميره وغرائه وضمير صانعيه وبائعيه لكأن العالم مجموعه البشرية جاء إلى هنا وتناول غداءه وسكر وعاث فسادا في أرض أعداء ثم غادر! قلت لنفسي لأتحلل من شعور القهر الذي اننتابني كأنني أعوم في بحر مسامير صدئه: لا بد أن تكون المجمعات السكنية الحديثة بحال أفضل!‏

تهت في الطرقات الجانبية وأنا أنشد المصرف فبدت الضاحية الصغيرة كاستديو كبير ابتدعه مخرج غرائبي ليصور فيه خراب العالم: أكوام من الرمل والبحص, والإسمنت على باب كل مبنى انزاح ثلثاها إلى عرض الطريق حيث المشاة لأنه لا أرصفة, وحيث السيارات تسير بطريقة (الزيك زاك) متجنبة أكوام مواد البناء هذه المرة لا فتحات المجارير! أما الأفنية المتجهمة, الملأى ببقايا الحديد والأسلاك وسطول الدهان الفارغة, بالإضافة إلى مزيد من القمامة المقدسة, فلها بضع درجات تحملنا إلى داخل المبنى حيث الموظفون الذين تلقي عليهم سؤالا: لم تنتظرون المؤسسات الرسمية لتقوم بعملها? لم لا تقومون بحملات تطوعية جماعية للتنظيف وزراعة بعض الزهور فينفجرون ضاحكين ويتبادلون نظرات ساخرة رغم أنني لم أتقن في حياتي إلقاء نكتة متوسلة تسلية الآخرين!‏

يأتيني هاتف على غير انتظار من صديقة كل علمي أنها تقيم في أبو ظبي تقول وفي صوتها بكاء إن شوارع زملكا (وهي من غوطتنا, عروس دمشق الجميلة) باتت كلوحة سريالية رسمها مجنون من ذاكرة مريضة متشفية, فتحت نافذتها في حارة الشوام أطنان من القمامة تتراكم يوما بعد يوم, مختومة بالأكياس السوداء المشؤومة التي تنفرز أحيانا, بعد أن تتفسخ ويصبح لها مراكب وأجنحة تمخر الهواء خاصة في الليل! ماذا تريدين أيتها الصديقة? العودة إلى الغربة وبلاد الحر الشديد التي من سلوكها الخدماتي أصبحت كأرقى الدول الأوروبية?‏

لا, أريد أن تتحدثوا من الإذاعة مع رئيس البلدية الذي لا يرد على أحد مهما ألح على هاتف سكرتيرته وهواتف موظفي مكتبه!‏

يتسرع قلبي ذلك التسارع المرضي حين أقرأ أو أسمع التغزل بدمشق وضواحيها, فعن أي مدينة يتحدثون, أما زالوا نائمين يرددون أغنيات غامضة تسربت إليهم من هنا وهناك, على مقعد دراسي أو من برنامج إذاعي.‏

الشيء يأخذ صفاته من ذاته ولم يعد مقبولا أن نهجم على موضوعات ونترك موضوعات أخرى وأن نستسلم لمقولة إن عاصمتنا وضواحيها قيد الإنشاء لأن جيلا يولد اليوم موعود بالبقاء لثلاثة عقود بين رمال الأرصفة, وإسمنت الواجهات وذهول رؤساء البلديات عن أبسط واجباتهم المتمثلة بالنظافة.‏

بالمناسبة تذكرت تلك الضرائب اليومية والشهرية والسنوية التي تسحب من جيوبنا كي لا نرى كل هذه الأهوال (الزبالية) وأتمنى لو نعرف المبلغ المرصود للنظافة على مستوى الوطن كله, مع عدم نسيان مسؤولية من يسمى بالمواطن, افعلوا شيئا كي نتنفس وكي لا نكون كاذبين حين نتحدث عن الزهر والورد, وكي نصدق أننا دخلنا الألفية الثالثة ككل خلق الله العاقلين, المتحضرين.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية