|
آراء وبعد سنوات من نجاح الطبعة الانكليزية قبلت دار نشر عربية بطباعتها وتعرضت هذه الرواية لمقالات وانتقادات أشبه بالقصف,ومعظم المقالات اعتبرتها الرواية الفضيحة والمسيئة لأخلاقنا وقيمنا,ورواية مسفة إلى حد بعيد في تناول مواضيع مقززة لا يجوز تناولها ولا تزال جامعات عربية ودول عربية تمنع هذه الرواية! لماذا هذا الهجوم الساحق على رواية الخبز الحافي? الجواب الوحيد لأن فيها كمية من الصدق والصراحة لا يحتملها جهازنا العصبي لأنها تجرأت وأصابتنا بصدمة الحقيقة ذلك لأننا اعتدنا خلال عقود طويلة على المواربة والكلمات الطنانة وعلى أن نظهر عكس مانبطن,واعتدنا على ضرورة تجميل كل شيء وتلميع صورة كل شيء حتى لو أدى ذلك إلى جعله شيئا آخر.
بكل بساطة تجرأ انسان شجاع وجريء على تعرية الواقع أي واقع?قاع المدينة هذا القاع المتشابه في كل المدن في العالم فثمة بشر يعيشون تحت خط الفقر لا يجدون ما يأكلونه ولا سقفا يؤويهم,ولا عملا...انه قاع الفقر المخجل والمخزي للبشرية جميعا وإلى هذا القاع ينتمي محمد شكري وقد قدم لنا حياة هؤلاء البائسين بكل نزاهة وصدق,فزلزل أمان عقولنا الزائف لأننا لا نريد أن نرى هؤلاء الدون الذين يعرون إنسانيتنا الزائفة ببؤسهم الفاضح. ببساطة يحكي لنا محمد شكري كيف كانت أمه ترسله مع أخيه إلى المقابر ليقطفا الأعشاب خاصة البقلة ويسدا جوع معدتهما,وذات يوم حملا إليها دجاجة ميتة كي تطبخها ليتذوقا لأول مرة طعم اللحم,فبكت الأم وقالت:لا يمكن أكل لحم ميت. الفقر المهين دفع أبا محمد شكري الذي كان يعود كل مساء إلى البيت يغلي من الغضب والقهر لأنه لم يوفق بعمل ولأن جيوبه خاوية دفعه في إحدى نوب غضبه إلى قتل ابنه الصغير-حين أمسكه من رأسه بقوة ولوى عنق الصغير فمات. لم يجد محمد شكري مانعا من فضح والده وفضح المجرم الأكبر والحقيقي:الفقر. لقد تحول الأب الفقير الذي لا يجد ما يطعم أطفاله رغما عنه إلى قاتل...بسبب حالة الغضب والقهر الجنونيين اللتين تتلبسانه باستمرار. بالشجاعة ذاتها التي تحدث فيها شكري عن والده القاتل يحدثنا عن حياة هؤلاء الذين لا نحس بهم بل لا نريد أن نحس بهم ولا نراهم لأننا لا نريد أن نراهم لأن صورتنا أمام أنفسنا نظيفة لامعة مبتسمة,فلماذا نعكرها?لماذا نخدش أنانيتنا?لكن محمد شكري يصفعنا حين يحكي لنا ببساطة أن بؤس حياته وانعدام الأمل,والجوع والفقر الشديدين,والحرمان العاطفي والجنسي,كل ذلك كان يدفع أحيانا لإقامة علاقات جنسية مع حيوانات ويصف لنا كيف ضاجع عنزة وكيف كان صاحب المقهى الذي عمل فيه لفترة يعتدي جنسيا على المراهقين الذكور الذين يعملون عنده. ان إنسانيتنا الزائفة وأخلاقنا التي تعتمد على التظاهر والادعاء والتبجح بالقيم الإنسانية ترفض الاعتراف بهذا القاع.لأنه يعريها بطريقة ما لأنه يضعها أمام مسؤوليتها كل واحد منا مسؤول عن هؤلاء البائسين الذين هم بشر مثلنا. لست بصدد مناقشة أوضاع اجتماعية معقدة,بل لأطرح سؤالا يؤلمني ويؤلم الكثيرين غيري:ما دور الرقابة الفنية والفكرية?لماذا منعت هذه الرواية ويمنع كل يوم مئات الكتب ويقص كل يوم مشاهد عديدة من أفلام سينمائية?! من هؤلاء الغامضون كما لو أنهم يلبسون أقنعة الذين نسميهم رقابة? الأسس التي يعتمدونها?هل هم مثقفون حقا?! وما علاقتهم بالسلطة?هل يخدمون سلطة ما سياسية دينية أم أن ولاءهم لعظمة الفن?! ليتهم يمنعون آلاف الكتب التافهة المسفة التي لا تحمل ذرة من فكر أو ابداع,لماذا لا تمنع هذه الكتب مثلا?بينما تتم محاربة ومنع رواية لنوال السعداوي ورواية لمحمد شكري,وغيرهما كثير. لا يوجد كاتب عربي إلا ولديه معاناة كبيرة مع الرقابة,بل ربما القاسم المشترك الأساسي لدى الكتاب العرب هو كابوس مشترك:مقص الرقابة. أذكر أنني أرسلت قصة منذ سنوات إلى مجلة ذائعة الصيت تصدر في إحدى دول الخليج والقصة عن أم في عقدها السادس تجلس في مقهى بحري تشرب البيرة وتستعيد صورا في حياتها أتاني الجواب مباشرة من رئيس التحرير بأن القصة أعجبته,لكنه لا يستطيع نشرها بسبب الكحول وبأنه يقترح أن أعدل في القصة. خطر لي لو أرسل له ردا ساخرا وأقول( بيرة بدون كحول) لو أن أحدا في الغرب قرأ هذه الحادثة لاعتقد أنني أكتب طرفة. ومنذ مدة رفض مسؤول عن ملحق ثقافي أن ينشر لي قصة بعنوان ليلة الدخلة والمصباح الكهربائي المنشورة في مجموعتي الأخيرة كومبارس,لأن هناك عبارة ترض الأخلاق وهي حين يطلب بطل القصة وهو طبيب من عروسه أن يفحص بكارتها كي يتأكد أن عذريتها غير مغشوشة قال لي المسؤول الثقافي:لا يمكنني نشر تلك العبارة( دعيني أفحص بكارتك?). قلت له لماذا ?وماذا في هذه العبارة?! فكان جوابه موعظة لم أفهم منها شيئا ثم كيف يمكن فهم عبارة خارج سياق النص?! لا يمكن أن أفهم أن عبارة مثل(دعيني أفحص بكارتك) ستبلبل وترض أخلاقنا? أية أخلاق من رمل هذه ومشيدة على أرض من رمال متحركة?!. وفي الطبعة الجديدة من كتابي ضجيج الجسد تم تعديل أو تشويه عنوان إحدى القصص وهي (أعاند الله من أجل الحب )وطلب مني الناشر تغيير هذا العنوان كي يمر الكتاب إلى بعض الدول العربية وبامتعاض استجبت لطلبه وغيرت العنوان إلى (أعاند القدر من أجل الحب) فاتصل بي بعد يومين وقال:بأن تناول القدر ممنوع أيضا ولن يمر الكتاب وصار العنوان (أعاند من أجل الحب,أعاند من...)الله أعلم اعذرني أيها القارئ?!. ماذا تريد الرقابة العربية من الكتاب تعرية الواقع بنزاهة وصدق أم تزوير الواقع وأنا أميل للرأي الثاني. أما مقص رقابة السينما فيتنافس مع مقص الرقابة على الكتب فكم من الأفلام شوهت وآخرها الفيلم الشهير عمارة يعقوبيان إذ إن الكثير من المشاهدين لم يفهموا أن ثمة علاقة شاذة بين الصحفي والرجل الصعيدي الفقير وانصعقوا حين وجدوا الصحفي يقف بجانب الرجل وزوجته المفجوعين بموت ابنهما. لأن الرقابة حذفت المشاهد كلها التي تصور العلاقة المثلية...رغم أنه لا يوجد أي مشهد مبتذل أو مسيء...أذكر يومها تعليق أحد كبار الصحفيين بأن شرف مصر لا يتحمل الإشارة إلى أن هناك علاقات شاذة?!. سبحان الله أليس موضوع الشذوذ الجنسي قديما قدم البشرية ومنتشراً في كل العالم بل إنه منتشر في عالم الحيوان أيضا فلماذا لا تتحمل الرقابة قوانين الفيزيولوجيا والطبيعة. هذا غيض من فيض...ففي عصر العولمة وزوال الحدود الجغرافية والفكرية على الرقابة العربية أن تعيد النظر إلى نفسها وأن تضخ دما جديدا في عروقها وأن تحدد ولاءها بدقة...ويا ليت يكون ولاؤها للإبداع الحقيقي والحر. وأخيرا.رغما عني أطرح هذا السؤال:أليست الرقابة العربية مسؤولة إلى حد بعيد عن إعاقة وصول الأدب العربي إلى العالمية لأنها تزرع في دماغ كل مبدع رقيبا صغيرا يمارس استبداده في اللاشعور. لماذا وصل أدب أميركا اللاتينية بسرعة إلى العالمية ويتمتع الكتاب بحرية بلا حدود في كتابتهم...أليس الجواب لأنهم يكتبون بحرية واسترخاء دون الخوف من مقص الرقيب...لأن الرقابة هناك مقتنعة أن غاية الأدب تعرية الواقع وتقديمه كما هو بطريقة فنية وإبداعية وليس تزوير الواقع. |
|