تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أصـــوات ايــف بـــونــفـوا وأحـجـــاره

كتب
الأربعاء 24-6-2009م
يوسف الجادر

يقدم الشاعر التونسي محمد بن صالح قصائد منتقاة من دواوين مختلفة من حيث تاريخ النشر والتجربة الإبداعية في كتاب (انطولوجيا الصوت والحجر) للشاعر الفرنسي (إيف بونفوا )،

ويساهم في مقدمة الكتاب بحوار مع الشاعر أشبه بمدخل معرفي يبين فيه رؤية الشاعر وفلسفته للكون والوجود، وهذا الحوار الراقي بين المترجم وإيف بونفوا يؤسس عتبة فكرية ومعرفية واستعدادا نظريا قبل الولوج في عالم بونفوا الشعري، وكأنّ بن صالح في المقدمة والحوار يكثف مسار القصيدة عند بونفوا منذ بداية الكتابة مروراً بالقراءات الفلسفية والطبيعية والآراء النقدية والرسم والنحت، ويختزلها بمحاور أساسية تعكس تجربته الحياتية والعلمية والإبداعية، فيكشف بهذه المحاور كيمياء الكتابة عند بونفوا، وكيف تتحول إبداعاته الشعرية إلى عوالم ثرة وغنية بالجمال والفكر والفلسفة، ويرصد تفاصيل في قصائده بعيداً عن الشروحات الكلاسيكية  ولأن  الُمحاوِر والمقدِّم يجيد اللغة الفرنسية بامتياز ويدرك مكنوناتها، وخاصة عندما يقوم بترجمة قصائد  لشاعر مثل بونفوا يقتنص اللحظة الشعرية ليودي بالقارئ إلى مجالات فلسفية وفكرية.لذا لن يشعر القارئ هنا، بالغربة اللسانية حين يكتشف جماليات اللغة والفكر والفلسفة في لغة كأنها إعادة جمالية لجوهر الجملة الشعرية، فكانت القصائد المترجمة دون عوائق ترجمات، سلسة تخلق دلالاتها الجمالية بكل عذوبة، ومن ناحية أخرى فإن امتلاك الشاعر التونسي ومترجم القصائد لدلالات الجملة الشعرية العربية مكّنه من إنجاز نصّ شعريّ مترجم متماسك دون خلل بالفكرة واللغة، ذلك الخلل الذي يحدث أحياناً في بعض الترجمات إلى العربية، وخاصة في النصوص الشعرية.‏

إن كتاب (الصوت والحجر)، هو مجموعة قصائد في إطارات معرفية للشكل والوجوه والتي يرصدها بونفوا من خلال منحوتات شعرية تشكلت من قلقه الوجودي، أو هي الرغبة المتمكنة في مطاردة الحضور أينما حل، كيف لا؟ وبونفوا (درس الرياضيات ثم تركها إلى الفلسفة، دون أن ينقطع في الانشغال بتاريخ العلوم. اقترب من السرياليين وسرعان ما ابتعد عنهم: كان يرفض استسلامهم لسيادة الشكل على النص، ففي رؤياه أنه على الكلمات أن تحافظ على دلالاتها الأرضية التي من دونها لا وجود لعلاقة حقيقية بالعالم) ص5، فعندما نقرأ :(ما الذي ندرك إلا مايفوت،/ ما الذي نرى عدا مايعتم، / ما الذي نشتهي سوى مايموت، / عدا الذي يتكلم وينشقُّ/ أيها الكلام القريب مني/ غير صمتك ماالذي نطلبه/ ماالبارقة إلا شعورك/ العميق الدفين/ إلا الكلام جسداً/ به يبقى على البدء والقدم؟)ص87.  نكتشف رؤيا بونفوا الفلسفية والوجودية والأشياء العائمة في المكان الذي يتأثث صوراً شعرية.‏

في المحور الأول يكشف بن صالح مسيرة بونفوا  الشعرية فيشير إلى الشعر والتأمل لأن تلك الازدواجية تميز الشعر عن الخطاب العادي، فيسأل:( لم هذه الازدواجية في النظرة؟) فيجيب بونفوا:( لأن مايهيمن على مجتمعنا الغربي هو الفكر المفهمي الذي تتمثل طريقته في إبراز الظواهر، الظواهر البسيطة وتعيينها في المواضيع التي تتفحصها. عندئذ يدرك علاقات بين مختلف هذه المظاهر لمختلف الأشياء، يدرك شبكة بأكملها من العلاقات تصبح تدريجيا عالماً ذهنياً قابلا لأن يبدو كأنه الواقع ذاته) ص13.‏

ويكشف بونفوا عن بواطن شخوصه التي هي انعكاس لحلمه وأمله في الإنسان، ففي نص (خيماوي الألوان) يقدم نموذج  الملون ـ الرسام ـ الذي يأخذ من بساطة الرؤية الشكلية ليبدع عوالم أخرى تتجاوز المكان، فهذا الحضور اللامتناهي عند بونفوا يحيله إلى (هنا) اللحظة الشعرية الحقيقية والقائمة يقول واصفاً الرسام: (وها أنه أخيراً، لكنّ أعواماً مرت، قد أتمّ عمله. الشعاع يبرق في غرابة، هادئاً يشتعل في وعاء مُنجَزهِ الكبير، هذه اللوحة من الخشب التي يبقيها من زمن أمامه مسنودة إلى الحائط. في ودّ ننظر من فوق كتفه. أحقاً إلا أنه ما قام بالبحث عن علاقات الأصوات والنسب؟ يتهيأُ لنا أننا أمام الاستحضار الحر إلى حد لحقل من الذرة، أو عباد الشمس، به جدول عند غروب الشمس، أو بالأحرى مستنقع، باقات من زهر أصفر مكتسحة بمياه زرقاء. هل أننا بصدد لحظة عظيمة من تاريخ الفكر؟ اللحظة التي قد يكون خيماوي الألوان قد اخترع فيها رسم الطبيعة)258.‏

وعرف القراء العرب بونفوا من خلال الترجمات التي اشتغل عليها أدونيس ونشرها في ستينيات القرن الماضي في مجلة شعر، لكن الترجمة الجديدة هي كشف للغة حين تأخذ اللغة فضاءات الشعرية إلى دلالات عميقة تنطلق من المرئي والمتداول إلى عمق الفكرة المراد إيجادها في النص الشعري، فعندما يسأل بن صالح إيف بونفوا، كيف تتلقى الآن أشعارك إلى العربية؟ يجيب بونفوا: (وددت لو كنت على الأقل على بعض معرفة بالعربية لأعاين  الفارق ـ أو القرابة ـ  الذي يوجد بين مفاهيمنا، والطريقة التي يعمل بها الحدس الشعري، الذي أراه كونياً، في لغتك، تمنيت بتعبير آخر لو كان بإمكاني الحديث معك حول قراراتك كمترجم، حول اختياراتك، ولحظات الارتياح والإحباط، لكن هذا الإحساس لايساوي شيئاً إلى جانب سعادتي برؤية لغتين حضارتين كبيرتين تتقاربان، لغتين وجدتا في رأيي لكي تتفاهما برغم سوء التفاهم المتعدد الذي حدث عبر العصور. شعوري عميق أن العربية لغة مكان الشعر فيها طبيعي، في حين أنه في الفرنسية يجب أن نصارع باستمرار لنتذكر ذلك.)ص22.‏

ومن هنا يتبين أن بونفوا يجمع العديد من العلوم والأفكار والفنون ليصبها في نهر الإبداع الشعري الذي يراه المخلص للإنسان المعاصر المزدحم بالمفهمة والنمذجة والتسارع، والعلوم المجردة التي تفعل فعلتها في الابتعاد عن التشخيص والصور الحقيقية للطبيعة.‏

الكتاب :أيف بونفوا الصوت والحجر ـ أنطولوجيا انتخبها وترجمها وحاور صاحبها محمد بن صالح ـ آفاق للتوزيع والنشر ـ منشورات الجمل، كولونيا (ألمانيا).‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية