تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


طقوس اليوم الأول والأخير

ملحق ثقافي
10/4/2012
قصة:موسى الزعيم:تتدحرج كتل الغيم من أعلى القمة باتجاه بطن الوادي في ذلك الصباح الندي.. يستيقظ الرجل النحيل الأشيب، يسقي أصص النعناع والحبق،

ويطعم الأرانب والحمام، تصحو زوجته على وقع حركته في البيت، تراه في نشاط غير معهود يــُعدّ فنجان قهوته، ويحلق ذقنه ثم يرتدي بدلته في اهتمام لم تلحظه منذ زمن يرفع صوت المذياع، يترنح مع شدو فيروز «ورقو الأصفر شهر أيلول»‏

تصيح الزوجة: اعقلْ يا رجل إلى أين أنت ذاهب؟‏

- يجيبها: أنت تعلمين.‏

.

- يا رجل صار لك خمس سنوات متقاعداً ألا تنتهي من حلمك اليتيم هذا؟‏

- وإن يكن ألا تعلمين أن اليوم الأول من المدرسة يوقظني رغماً عني وأن للأيام طعماً نحسه يمتزج مع طعامنا وشرابنا.‏

بين الفينة والأخرى كان ينظر إلى الشارع، يرقب جموع التلاميذ يرتدون ملابسهم الجديدة، فيبتسم في حبور ونشوة، يرشف ما تبقى من قهوته ويتجه إلى زوجته قائلاًٍ:‏

- ماذا ستعدين لنا غداءً؟‏

تصيح في حزن: اعقل يا رجل «كرمى للنبي» متى أنتهي من تخيلاتك هذه، في كل سنة لمثل هذا اليوم احسب هذا الحساب. يا إبراهيم الأولاد تخرجوا من الجامعة وتزوجوا وكل يبحث عن رزقه.‏

يجيبها.. بعد أن يسوي نظارته: يا امرأة أحس أن شيئاً في هذا اليوم بالذات يقلعني من الفراش، أو أني مسكون بشيء ما لا أعرفه لكني أحسه يجري مع دمي يفور؟ يتصاعد فيّ فلا أستطيع كبحه إلا هناك كيف لي أرى جموع التلاميذ والمعلمين يقصدون مدارسهم وأنسى هكذا فجأة أربعين سنة أمضيتها في التعليم ألا تعتقدين أن أحداً منهم يحتاج إلي؟‏

ينهي كلامه هذا وقد وصل إلى باب البيت يهم بالخروج تناديه الزوجة: لا تنسَ العكاز، وهي تغمز في إشارة ذات معنى.‏

يأتي صوته محتداً وقد عبر الباب: عيب يا أم محمود.. عيب مدرسة وعكازة، أتظنين أني أصبحت عجوزاً؟ أعتقد أنك وحدك يعرف جيداً أنني ما زلت شاباً.‏

تفرك الزوجة كفيها وتحوقل، وهي تعلم أنه سوف يعود إليها بعد ساعة وقد أنجز مهمته أو أنه – كما يقول – تخلص من النمل الذي يسري في جسده وهدأ فوران روحه.‏

**‏

اعتاد الأستاذ إبراهيم معلم المدرسة أن يذهب في أول يوم من العام الدراسي إلى المدرسة تراه وهو يعبر ساحة المدرسة، يمسح بيده شعر هذا التلميذ وتسمعه بين الصفوف يقول للصغار.. يا بني لا تجلس على المقعد قبل أن تمسحه.. أنت.. أنت.. لا تضع كتبك على الأرض، ثم يستقبله الأستاذ مصطفى مدير المدرسة مهللاً فرحاً، يسأله عن صحته، ويعرفه على من جاء من المعلمين الجدد، يتناقشان في بعض القضايا. وبعد ذلك يقدم له أبو معتز كأس الشاي، يتناوله بتلذذ، ويغادر مصحوباً بهالة من الفرح لا حد له.‏

**‏

اليوم مبكراً يصل الأستاذ إبراهيم إلى المدرسة، يعبر ساحتها، يؤدي طقوسه المعتادة، ثم يدخل غرفة الإدارة، يلقي التحية ويتبعها بكل عام وأنتم بخير.‏

يسلم على الجميع إلا أنه يشعر أن شيئاً انقبض في داخله، يسأل عن الأستاذ مصطفى، فيجبه الرجل الجالس وراء الطاولة: نقل إلى المديرية.‏

- ومدرس التاريخ حسن‏

- قدّم استقالته وهو يعمل الآن سائقاً.‏

- وأبو معتز... تقاعد لأسباب صحية.‏

وجد أن ما سمعه يكفي ويمنعه من السؤال عن البقية لأنهم كانوا أخر رفاق دربه الطويل.‏

يجيل الأستاذ إبراهيم نظره في الغرفة، يجدها باهتة رغم الطلاء اللامع والأثاث الجديد.‏

لعله الزمن اللولبي.. يدور في حلبة الصمت يشده حنين آسر إلى الماضي بكل تفاصيله، يعبر الشريط أفق مخيلته، يغرقه في دوامة الذكريات، تبهره لوحات الشعارات الزاهية المتناثر على الجدران وبأشكال مختلفة.. هنا خلف طاولة المدير كانت خارطة للوطن الكبير لا يوجد داخلها إلا خطوط زرق.. شرايين تغذي الجسد الواحد، وبجانب الباب لوحة كتب عليها «المعلم الذي لا يحسن تعليم تلاميذه يضع رقبة الأمة في المقصلة». وخمن الأستاذ إبراهيم أن الخريطة واللوحة والأثاث وذكرياته مع أصدقائه صارت في المستودع أو في «جبّ الفأر» بين الكراسي مخلعة الأرجل والغبار. ينتفض عندما تعود على ذاكرته صورة جب الفأر، يخاطب نفسه: نعم جاء يوم بت فيه أنت من يخاف جب الفار، تلح عليه صورة فأر يقرض كل ما وضع في المستودع تنداح الأصوات الخافتة والروائح العفنة يتعبه نشيش الأفكار ورجفان القلب.‏

ينتبه مذعوراً يمسح وجهه ويتململ في مقعده يطول انتظاره. لم يسأله أحد عن شيء، المدير الجديد مشغول بترتيب مـكتبه وتمرين كرسيه على الدوران، يـميناً.. يساراً، أخيراً يسأله:‏

- هل من خدمة نقدمها لك يا عم؟‏

لا.. لا شكراً فقط كنت أسأل عن الأستاذ مصطفى، ثم يهم بالخروج، لم يستوقفه أحد، يشعر أنه ينزلق من دبق الوقت وحميم الصمت الآسن.‏

- السلام عليكم قالها وانطلق، تناهى إلى سمعه شيء من اللغط، أحس أنه موجه له. لا يدري لم سيطرت عليه فكرة أنه خرف. شعر أن الصوت خرج من ذاته فسمعه بقلبه وأذنه.‏

يلفه صمت الطريق تبدو خطواته أكثر تثاقلاً. يطول الدرب، يتعرج، يزداد عدد الخطوط في جبهته، تسرع الغيمات بالتدحرج نحو الوادي. يعود سيل الذكريات. يتذكر آلام قدميه وبحة صوته. يصل إلى البيت يتجه صوب المكتبة يتناول حقيبته السوداء من فوق أحد الرفوف. يبسط كفيه تحتها. وفي هيبة المحارب يتقدم خطوتين. يرفع الحقيبة ليضعها فوق الخزانة، ثم يستند إلى عكازه، إلى أن يصل إلى السرير ويتهالك عليه. ينكب لتلفه غيمة من الحزن والألم فيما كانت زوجته ترقبه مبهوتة.‏

يوقظها جرس الباب. يدخل سامر، فيملأ البيت ضجة وحياة يصيح وهو يركض باتجاه جده: جدي.. جدي انظر.. انظر ما أجمل هذه الحقيبة التي اشتراها لي والدي! انظر جدي إلى هذه الكتب! ألا تساعدني في حل وظائفي؟‏

عندها يحتضن الأستاذ إبراهيم حفيده يقبله ويلفه في عناق حار تترقرق. من عينيه دمعة تراها الزوجة فتصيح مستدركة: هيا لنشرب الشاي معاً. ثم تلتفت إلى سامر قائلةً: من اليوم سوف يبدأ جدك.. أقصد الأستاذ إبراهيم الدرس الأول معك.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية