تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


تأويل المختلف ...الخصوصية الجمالية في النص الإبداعي

ملحق ثقافي
10/4/2012
بهيجة مصري إدلبي:القراءة وجد يستبصر وجود النص، متعة تنهض في الذات، وفعل يستوي بالخلق، ولأننا لا نريد أن نعيد إنتاج ما توافق عليه النقاد من مقولات

حول النص ونظرية القراءة، سنكتفي بالتأكيد على الفعل الحقيقي الذي تقوم على أسراره نظرية التلقي للكشف عن ماهية النص الإبداعي، لأن هذا الفعل الذي يتشاكل مع النص متجلياً في موائل تحولاته، في المعنى هو الذي يكشف عن فعاليات المتعة «فثمة فعاليتان للمتعة، تنطلق منهما كل عملية إبداعية: الأولى وهي فعالية القراءة.‏

.

الثانية وهي فعالية الكتابة، ولقد نعلم أن هاتين الفعاليتين وجهان لفعل واحد، فالقراءة لا تنفك تدور في فلك الكتابة، بل هي كتابة ولكن بطريقة أخرى، والكتابة لا تنفك بدورها تدور في فلك القراءة، بل هي قراءة ولكن بطريقة أخرى»؛ حيث تجري القراءة مجرى التأمل في الكائن، لينهض الكشف عن خصوصية الجمالية في كنه النص الإبداعي الذي تتحقق قيمه الجمالية «من جهة أولى حسب ما يمكن تسميته بـ العصر الجمالي «ونعني به الحقبة المعينة التي يتم فيها الإنتاج ومن جهة ثانية بحسب خصوصية النوع في علاقاته وتفاعله مع الجماليات المتعددة» إضافة إلى الإمكانيات المتصلة بهذا المبدع أو ذاك والمرتبطة بمداه الإبداعي أي خصوصية تشكيله للخطاب، ما يضع هذا الخطاب في مداه التشكيلي الخاص والذي يشكل بصمة في مدى التجربة الإبداعية.‏

ومن هنا تبرز أهمية القراءة وخصوصية التناول لتجربة رجاء عالم التي تمثل علامة فارقة في الرواية السعودية العربية والرواية العربية، سواء ما يطلق عليه الدرس النقدي الأيديولوجي الرواية الذكورية أو الرواية النسائية، وبالتالي يتحدد سردها بهذا السر الكامن في المحتوى الثقافي والجهد المعرفي الذي تنبني عليه أعمالها جميعها، والمتماهي ـ بمحتواه الإنساني ـ في أسرارها ككائن تنجز ذاتها ووجودها وأحلامها وأنوثتها من خلال الكتابة، التي تمثل لديها حالة من خلق ووجود دائم، لا يمكن أن تكون بدونه ولا يمكن أن يتخلق بدونها. فهي تدخل في أتون الحرف مكتنزة بمعارفها ومخطوفة بعوالمها، ومتماهية بتجاربها، «لتجد نفسها وشخوصها داخل هذه المسافة الضيقة فيما بين جدارين فتلجأ إلى الحلم لا بمعنى الهرب الرومانسي الساذج وإنما هو هروب إبداعي، يخرج من الزمن إلى زمن آخر ومن المكان إلى مكان آخر ويتسلق من قمة جدار إلى جدار آخر وهكذا إلى ما لا نهاية حيث لا يكون الظرف قيداً أو مانعاً. لقد انكسرت حدود المكان وتم نفخ الزمن لكي يتمدد أو يتقلص حسب حاجة الأنثى وظروفها المحيطة بها».‏

وتأسيساً على هذا الزخم المعرفي، والإبداعي الذي ينجلي واضحاً في تجربة رجاء عالم، تأخذ قراءتها شكلاً منسجماً مع هذا التجلي، فقراءتها لا يمكن أن تكون منفصلة عن تجربتها كلها بزخمها ومداراتها ومسافاتها المتشعبة في رؤى المعارف، فأعمالها تمثل سلسلة متواصلة متصلة منفصلة متجذرة في اللغة كما تتجذر اللغة في ذاتها، وكأنها لغتها ووجودها وأسلوبها وسردها، وبالتالي لا يمكننا أن نفصل هذا الوجود الكائني عن الوجود السردي في خطابها الإبداعي، لأن السرد لديها هو حالة فارقة، حالة من العشق المختلف، فهي تدخل نصها كما يدخل العاشق محراب تنسكه وتأمله، وكما يتواجد الصوفي في كهف أسراره، وهذا الذي ميزها من كل السرديات العربية وكأنها نسيج وحدتها تعجن اللحظات الزمنية في ذاتها لتتماهى في الزمن الذي يتماهى في المكان المتشكل في كينونتها وخلقها الإبداعي لتنجز هذا السرد المختلف الذي لا يمكن إدراكه بشكل مباشر لأنه لا يتيح المسافات الواضحة بقدر ما يكشف عن الخوف الكامن في الذات، والكامن في العالم، والكامن في الوجود الإنساني.‏

وهذا ما دعا الكثير من النقاد إلى القول بأن أعمالها غامضة وغير متاحة بشكل سهل للنقد، دون أن يدركوا أن الغموض إنما يتأتى من مفهومها للكتابة بأنها كون معرفي يتماهى في المعرفة الذاتية للكائن، ودون إدراك هذا الكون المعرفي الذي تنبني عليه أعمالها سيبقى الغموض مواجها أولئك النقاد، إلا أن الأمر لم يكن غموضاً بقدر ما كان تجلياً في عوالم تأخذ السرد إلى غير المؤتلف، لتدخله في كونه المختلف، وبالتالي تحتاج القراءة إلى سبر هذا المختلف لإدراك كنهه وإبعاده الإبداعية التي تتأسس عليها تجربة رجاء عالم.‏

إن رجاء عالم مشروع روائي متكامل بمعنى أنك لا تستطيع استبطان رؤاها السردية إلا من خلال قراءة تجربتها كاملة لأنها تجربة في الكشف والاستبصار وتجربة في الوجد الصوفي سواء على مستوى تشكل اللغة الصوفية، واكتناه المعجم الصوفي، أو على مستوى التجربة الحياتية، فهي منحدرة من عائلة متصوفة تقول: «جدي كان متصوفاً ويجد رزقه تحت سجادة الصلاة، والدي كان يكتب الشعر ويعزف الموسيقى، لذلك تجدني امتداداً لهذا العالم». إنها مخطوفة للكلمة، بالكلمة لإيقاع الوجود «منذ طفولتي كنت قابلة للانخطاف، للكلمة للنغمة لغصن شوكة». فلها عشقها في اللغة وهياماتها وانمياثها في تجليات الحرف والكلمة والعبارة، فإذا بها تقيم بأسلوبها صلواتها بين الحضور والغياب، لتكشف عن كنه الوجود، وكنه الذات والعالم، وكنه الأمكنة والأزمنة، وجوهر الأشياء، فإذا بالكل معها لا يخرج إلا من وجد اللغة، وإذا اللغة أداتها الكاشفة الغامضة الواضحة الوامضة السائحة في مضارب الحلم المتجلي في أدبها «مستمرة في التجريب»... لأنه الوسيلة للاكتشاف». ومن يقرأها لا شك سينخطف بانخطافها، ليدخل تلك العوالم التي تنفك من أسر الواقع دون أن تغض الطرف عنه، وتنسرح في العجائبي والغرائبي والأساطير دون الاستغراق الذي يبهم الحكاية، ففي رواياتها «تمزج بين الغرائبي والأساطير والحكايات والرموز والطقوس والتأملات الصوفية والحكمة والفلسفة، إضافة إلى أنماط من العلاقات والعادات، التي تنجم عن مجتمع ثري ومتنوع، وقائم على التعدد والاختلاف، مثل مجتمع مكة».‏

وحين تذكر مكة والمجتمع المكي لا بد أن ينهض ذلك العشق الذي عرفت به رجاء عالم لهذا العالم المقدس، لأنه عشقها الأزلي، الذي لم تخل رواية من روايتها منه، بل لم تخل لحظة من لحظات حياتها دون أن يتفتح عشق ذلك الفضاء وذلك المكان في أسرارها، في حواراتها في كلماتها، في كل شيء حولها، وكأنها ولع متوحد في ذاتها وروحها، وجسدها فهي تعتبر مكة كنزها الشخصي «مكة اعتبرها اعتباطاً كنزي الشخصي، إرثي الذي آل إليَّ عشقاً، استحقيته حباً وافتتاناً بمكان يحكيه أبي وجدتي، مكة التي قبضتُ ختام ملامحها في طفولتي».‏

هذا الفضاء الذي يتجلى فيه الكائن المتوحد في المكان ينهض في ذاتها كائناً غيبياً مؤتلفاً بالكائن، حيث يشكل فقد الكائن فقداً للمكان، وكما هي في أعمالها بمحاولة لإنقاذ المقدس من الموت والنسيان كذلك هي الكائنات التي تحيط بها، وكأن المكان لديها تمسكه الكائنات من أن يقع في هاوية الزوال «لو لم يمت أبي منذ سبع سنوات لأنقذتُ المزيد من مكة، كلما توفي رجل من رجالات مكة أو امرأة من نسائها الأسطوريات شعرت بفقد حقيقي، لأن معهم تذهب مكة الفريدة».‏

فهل هي فتنة المكان؟ وهل هي غوايته التي يستعيد الكائن من خلالها وجوده؟ وكيف لهذه الغواية أن تأخذ طريقها إلى السرد وتشكيل الخطاب؟ وكيف يشكلها الخطاب لتتحول إلى غواية للقراءة؟ وكيف تكشفها القراءة لتتحول إلى غواية للمتعة؟ هكذا هي رجاء عالم، وفي خطابها الروائي إجابات على كل تلك التساؤلات التي يستدعيها الدرس النقدي المتماهي في اللحظة الإشراقية لديها، «وحدها رجاء من تشعرك حروفها برائحة تراب مكة القديمة التي تفوح في الغروب بروائح المسك المخلوط بالخزامى المتناثرة في ضواحي عرفات، وتجعلك تلامس اندلاعات الدموع والزغاريد والدعوات والبخور في دهاليز البيوت ومن خلف رواشنها العتيقة».‏

ولعل هذا الفضاء المكي إضافة إلى الفضاءات، التي تنفتح في الأسطورة والحكايات الغرائبية والعجائبية والتجليات الصوفية، هو ما يجعل قراءة رجاء عالم قراءة معرفية ممتعة، وهو ما يمنح هذه التجربة بصْمَتها لأن الكتابة الإبداعية لديها «للاكتشاف، وللذهاب بالمكان وشخوصه لغاياتهم التي لا تظهر للعين المجردة... هي مثل استجابة جسدية وروحية للمكان وأزمنته وعوامل تعريته لا نعيها، في الوقت الذي تتحور وفقها أجسادنا وأرواحنا. الكتابة الإبداعية هي الجسد المتحور». وبالتالي فهي تتشكل في المختلف الذي لا تكف عنه في كل إبداعاتها، لأنها ترى حين نكف عن الاختلاف والتحور يكون الموت، ومن هذا المنطلق فتحت أبواب تجريبها وتحويرها للعالم وتشكيلها الذي تحول إلى بصمة توقظ في ذاتها الرؤى المختلفة، وتشدها إلى مسافات غائبة عن الآخرين لتكتشف ما يمكنهم أن يكتشفوه وما لا يمكنهم أن يروه، لأنها بالكشف تتحول إلى كائن مختلف في تلقيه للعالم، وتلقيه للتجارب الإبداعية. «ولأن كتابتها توحي بخصوصية وتفرد أسلوبي، يمكن القول إنها أقرب أسلوبياً إلى مفهوم «النص البصمة» الذي يميزها كصياغة، على اعتبار أن الرواية كعمل فني تتميز بسمة العلامة، خصوصاً في علاقتها بالتاريخ الذي يحضر في سردها الملغز كعمق روحي وشعوري، وكمظلة لذات تمارس تمددها الأفقي والعمودي لتنجز مغامراتها اللغوية، فالذات المستدمجة كمركزية للرواية بقوة وكثافة مهيمنة، لا تحيل إلى أنوية فارطة بقدر ما تعبر عن وعي وصراحة الذات، ونزعتها الثقافية التدميرية المنقطعة عن العالم، المعبّرة بأشكال معرفية وفنية عن مفهوم المعرفة ذاته».‏

هكذا هي رجاء عالم أنثى تشهق بالعالم، وعالم يشهق بالحياة، وحياة تتجلى في الحرف، وحرف يستغرق الذات، وذات تستغرق الوجود، ووجود لا يدرك إلا بالوجد. ومن هنا كانت فاتحة هذا المدخل أن القراءة وجد، إذ لا يدرك نص رجاء عالم إلا إذا دخل الكائن في تجربته لتنفتح فضاءاته التي تفسح لكل الأشياء أن تتشكل في مقام التجلي، لأنها روائية أدركت أن اللغة مكمن السر، وأن الغياب فيها هو السبيل إلى الكشف، والكشف لديها هو لحظة إشراق تتجلى في الذات كما تتجلى في اللغة، وبالتالي تنهض تجربتها من هذا التوحد والإنمياث في صلوات اللغة التي تتشكل فيها وتشكل نصها.‏

ومن خلال هذا الجهد المعرفي والإبداعي الذي وسم تجربتها جمعيها منذ عملها الأول 4 صفر، وصولاً إلى رويتها البصمة «طوق الحمام» مروراً بأعمال مختلفة في القصة والمسرح كمسرحيتها «كوة لوجه امرأة» وفي الرواية كرواياتها سيدي وحدانه، وطريق الحرير، وحبي، وخاتم، وموقد الطير،..الخ إلى جانب التشكيل السيريغرافي مع شقيقتها شادية عالم، في عملهما المشترك «جنيات لارا» كتجربة جديدة ومختلفة وكأن من يقرأها يدرك ما قالته بأن نصها لم يبدأ طفلاً وإنما بدأ كائنا بالغ القدم. ولعل البحث في مرجعياتها الثقافية والفكرية والصوفية وتكوينها المعرفي، يبرر ما قالته لأنها رواياتها تنفرد بهذا الجهد المعرفي وهذه المرجعية التي تتجول في الثقافات جميعاً قديمها وحديثها عربيها وغربيها، لتجعل من إبداعها مساحة شاسعة للحوار الحقيقي بين الثقافات والحضارات، وهذا ما برز واضحاً في روايتها طوق الحمام التي ستكون موضع البحث والتحليل في مقالات أخرى، لأنها حشدت فيها كل ما توصلت إليه تجربتها، سواء السردية أو المعرفية أو التجريبية أو الحياتية لتشكل عملاً مختلفاً ممتلئاً بها كما أنها ممتلئة به، لأنه عمل يحتاج إلى وقفات متفردة ومختلفة أيضاً للوقوف على فضاءاته المكانية وتجربته الزمنية في تشكيل الخطاب السردي، وللبحث في مضامين هذا السرد المتماهي في أسراره الإنسانية، بحثاً عن المفتاح الضائع من تلك الإنسانية، والذي كان سبباً في ضياعها وشرودها عن ذاتها، وكأن ذلك المفتاح بحث عن الهوية الإنسانية انطلاقاً من زقاق أبو الرووس وفضاءات مكة المقدسة وصولاً إلى الأندلس ذلك الفضاء الذي يشغل الروح بذكرياتها وأحلامها وتماهيها في تلك العوالم السحرية الغائبة في تكويننا، لتأخذ هذه الرواية حالة من البحث عن مفتاح الغيب ذلك الذي يؤلف بين البشر جميعاً بين الناس والأديان والثقافات والحضارات هو المفتاح المصنوع من الأغاني والشعار ويفتح كل الأبواب حتى الأبواب بين الحياة والموت كما تشير في الرواية، «إنها حياة الخلود التي ينبعث فيها البشر على رؤى الحب والحياة والأبدية».‏

ومن هنا ستكون وقفاتنا بدءاً من المناصات العنوان والإهداء ومن ثم العناوين الفرعية المنتشرة بكثافة في هذا العمل، إضافة إلى التناص الذي انشغلت به كثيراً خاصة في ر سائل عائشة ومختاراتها من رواية العاشقات للورانس، وكذلك الأمر في الحالة الحوارية التي أدركتها في قراءة شواهد القبور التي كانت تشي بالحوار الحقيقي بين الثقافات، إضافة على ما يشكله المكان من فضاء مختلف في هذه الرواية سواء الفضاء المكي أو المكان المتمثل في زقاق أبو الرووس أو في الأمكنة الأخرى التي ستظهر في القسم الثاني من الرواية والمتصلة بالأندلس كفضاء المسجد والكنسية والمقبرة، ولا يغفل الدرس النقدي عن البنيات السردية الأخرى كالتشكيل الزمني وحالة الاسترجاع والاستباق والذكريات واليوميات مما يسم السرد النسائي وسرد رجاء عالم على الخصوص.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية