|
ملحق ثقافي أن الدول المتقدمة والقوية، والتي تثبت فعاليتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والعسكرية، لا تزدهر إلا بالاعتماد على المعرفة الدائمة والمستمرة.
. هذه الحقيقة الساطعة، يحاربها الكثير من المتعلمين في مجتمعاتنا، وجُلهم من أصحاب الشهادات الجامعية، لكنها شهادات نفعية، حتى غدت جموعهم عالة على الدولة والمجتمع. لقد قرؤوا كتب المدرسة والجامعة فقط، ليحصلوا على مؤهل يخوّلهم تسلّم وظيفة يتقاضون بها مرتباً شهرياً، ثم ينسون معايشتهم للكتاب، بل وينسون ما تعلموه في مراحل الدراسة، ويندهشون ممن يقرأ أي كتاب آخر. يقول الفيلسوف الألماني نيتشه: «من العار أن نهري سراويلنا على مقاعد الدراسة».
. وكثيراً ما نسمع عبارات الاستخفاف بالكتاب والمجلة والصحيفة، وإذا عرفوا أن أحداً يمضي وقته أو يملأ فراغه في المطالعة والبحث للوصول إلى شيء من المعرفة، أو الحصول على مسارب تؤدي إلى فهم بعض الحقيقة أو المعلومات، يسخرون منه ويتساءلون باستخفاف: «وماذا تستفيد من القراءة.. هل يزداد مرتبك.. هل تتغير وظيفتك؟». ثم يمضون هازئين منك ومن كتبك التي تقتنيها وتقرؤها، ليتجمعوا في مكان ما ويبدؤوا بلعب الورق من أول الليل حتى الفجر. يقول سفيان الثوري: «سيأتي الناسَ زمانٌ.. من طلب العلم فيه صار غريباً في زمانه». هذه فئة منهم، ونجد غيرهم يمضون حياتهم وقد قرؤوا كتاباً أو كتابين، من الكتب الصفراء القديمة، التي لا تقدم شيئاً جديداً يحرك البركة الراكدة الآسنة، لأنها لا تثير في النفس التساؤل، يقول جان كوكتو: «اعلموا أن الكتاب الجيد لا يعطي أبداً ما يُنتظر منه.. حسبه أن يثير لديكم نقاط استفهام». إن قراءة الكتب التي تحتوي كل ما يستجد من علوم ومعارف وفكر فلسفي، وأدب ونقد، تضيف إلى الشخص شخصاً آخر أعلم منه، لأنه سيقف على أنقاض ما لديه من معرفة خاطئة أو ناقصة، ليكوّن معارف حداثية متطورة، هي بنت العصر. لقد تطورت بعض البلدان والمجتمعات، تطوراً سريعاً وعظيماً في شتى المجالات، بينما ظلت شعوب أخرى ترزح تحت وطأة فكر ثابت «ستاتيكي»، لا يتحرك خطوة إلى الأمام، وهي تسعى دون جدوى، إذ ما انفك جُل أبنائها يستحضرون الماضي للعيش فيه، ولا يعتمدون «الديناميكية» في تحصيل المعرفة للولوج في نافذة المستقبل الحديث. يقول باشلار: «المعرفة الصحيحة لا يمكن أن تنهض إلا على أنقاض المعرفة الخاطئة». إن مجتمعاتنا تهرب من القراءة الحرة، تمقت الكتاب الثقافي الذي يمتلك المعرفة، رغم أنه سبب أساسي في استمرار ما تعلمه الفرد في مراحل الدراسة، يكوّن مفهوماً يرفع من سوية إتقان الخبرة والإقدام على تطوير الزراعة والصناعة، والخلق والإبداع، في جميع المجالات، ويسمو بالعلاقات السليمة الطيبة بين أفراد المجتمع. ويهيئ الفرد لتقبل استقبال فكر الآخر ومعتقده،
. ومحاورته بطريقة إنسانية راقية. ويقول المفكر محمد أركون «ما يخوفني ويعيق انطلاقة الفكرة.. العقل العربي المغلق على أفكار لا يقبل نقدها ولا تجديدها». لقد عدّ الشاعر العظيم المتنبي الكتاب خير جليس بين المخلوقات، وقال أحد المفكرين: «إذا لم تقرأ إلا ما توافق عليه.. فإنك لن تتعلم أبداً»، هذا يحفز للبحث عن كتب مغايرة لما استحكمت فيه العادة على الأذهان. عليك أن تبدأ منذ الآن، أنشئ مكتبتك الخاصة، من مزيج من الكتب التراثية والحداثية، اقرأها بتأن، ولا تنظر لسنك وتقول «لقد مضى من العمر أكثر مما بقي»، اشرح بعض أفكار ما تقرأ على هامش الكتاب، ودوّن بعض العبارات الجديدة الهامة في رأيك، وحاورها، وجرب أن تنقدها، لأن الكتاب الذي بين يديك يحاورك كاتبه بأفكاره، وإن استطعت أضف إليها، ثم اعرضها على أصدقائك وزملائك، لتستكشف صدى ما استجد لديك، جرب ذلك، وإني على ثقة بأنك لن تتراجع، وستجد نفسك وشخصيتك قد تغيرت وارتقت مكانة ومرتبة أفضل بكثير مما كانت عليه. لقد سمعنا وعلمنا أن إسبانيا وحدها تنتج في العام الواحد ثلاثة أضعاف ما ينتجه العالم العربي من كتب مطبوعة، فإن دل هذا على شيء، فإنه يعني أن الشعب الإسباني يهتم بالقراءة واكتساب المعرفة، أما نحن فلماذا نكثر من المطبوعات إذا لم يقرأها أحد؟ فإذا كنا نريد من شعبنا أن يقرأ وأن يثقف نفسه، ويستزيد من خبراته ومعلوماته، علينا أن نهيئه منذ صغره، وننشئه على حب الاطلاع والتعود على القراءة بشغف، وليس المطلوب اليوم أن تزدحم الأرفف في المكتبات والبيوت والمدارس بالكتب للتباهي بها فقط. إننا نهرب من الكتاب، ونمقته، فلا نعيش معه، بينما في المجتمعات المتقدمة، يعيش الناس أكثر أوقات فراغهم مع الكتب التي تنتج الفكر الحديث. إنهم يقرؤون في المطعم والمنتزه والمقهى والفندق والمنزل، وفي وسائل النقل، هم لا يضيّعون شيئاً من وقتهم في العبث والثرثرة والخوض فيما لا يفيد. والذي يفيد الإنسان فقط، العمل الجاد والقراءة لاكتساب المعرفة. الكتاب هو الذي يغذينا بالمعرفة التي بدورها تشكل لدينا الحجة العقلية، وإن من يرفض الحوار، هو الذي لا يمتلك المعرفة، ومن لا يمتلكها ليس لديه حجة عقلية، يقول مفكر مصري «إذا كان العقل خواء.. يسهل أن تستقر فيه الأفكار المريضة». فلماذا نترك عقولنا خواء، فارغة، ومسطحة، لتعشش فيها بسهولة، أفكار بالية مريضة وسقيمة، تخلو من النبض الحار الدافئ، الذي ينقلنا إلى الحياة، لتمتلئ بالحيوية والحركة الإيجابية الفعالة؟
. لقد تغير وجه العالم منذ بداية القرن العشرين، بتأثير ما ضمته الكتب من أفكار عظيمة، فالقراءة الدائبة في الكتب المتنوعة توصل إلى العلم، والعلم يطور العقل، ويغيّر، والتطوير والتغيير، هو وحده الذي يوصلنا إلى الازدهار الذي نأمله. أحدهم قال: «الأغبياء وحدهم لا يغيرون آراءهم». نحن متهمون بالتقصير مع أنفسنا أولاً، ومع الحضارات والشعوب الأخرى ثانياً، نعم نحن متهمون، وإذا اتهمْنا أنفسنا أو اتهمَنا الآخر، فلنا ولهم الحق في هذا الاتهام، فإذا كنا لا نُقبِل على اقتناء الكتب أو استعارتها، ولا نقرأ أبداً، فلماذا لا نُتّهم؟ لكننا قد نشتري الكتب ونقتنيها، حتى لو كانت بأسعار مرتفعة، المهم أن نختار الكتاب الذي يحسّن من المستوى المعرفي، لا أن نتجه نحو كتب الأبراج والسحر والخرافة والطبخ وتفسير الأحلام ومثيلاتها، أو الكتب التي تجتر ما كتب منذ أكثر من ألف عام، ونتفاخر بامتلاكنا هذه الكتب التي لا تضيف لحياتنا أي تطور. يقول المفكر فؤاد زكريا: «الغرب يهتم بالفكر العلمي والعقلي.. بينما العرب يهتمون بالسحر والسيمياء والخرافة والغيب». ما هو مألوف في مجتمعاتنا الآن، نبذ الكتاب الفكري الذي يبحث في المعرفة، هذا المألوف يتحول إلى عادة مستحكمة وثابتة، وكل من يخرج عن هذا المألوف وهذه العادة، يبدو مغايراً ومختلفاً، يُنظر إليه على أنه نشاز، غير منسجم مع ما يألفه المجتمع السادر في إدمانه لعادة يعتقد بصحتها، رغم أن ذلك المغاير والمختلف عنهم، في غالب الأحيان، يكون هو على حق، وفي اتجاه صحيح، لأنه كبش فداء لتصحيح الأفكار المغلوطة، ونشلهم من براثن العادة المستحكمة في أذهانهم فعطلتها. يقول جبرا إبراهيم جبرا: «الخارجون عن المألوف.. هم الذين يطورون المجتمع»، ولكن رغم كل بعدهم عنه ومحاربتهم له، نجدهم في حقيقة أنفسهم يعجبون به ويجلّونه، وإذا دعاهم إلى القراءة، نفروا منه وسخروا وقالوا ما يشاؤون فيه. قد يقول قائل: الكمبيوتر الآن موجود في كل بيت، ويمكن لنا أن نجوب آفاق الأرض بكبسة زر، لنكتشف ونكتسب من المعارف والعلوم، ما لا تحتويه آلاف الكتب، ونحن نختار ما نشاء لنقرأ ونعرف ونطلع. نقول له: هذا صحيح، ولكن الوسائل الحديثة لم تلغ الكتاب، ولا يمكن لها أن تلغيه، أو حتى تستغني عنه، فالكتاب والورق، سبب أساسي، وهو أم وأب لوجود كل تلك التقنيات الحديثة، التي صارت بين أيدينا، ورغم ذلك كله، يظل الكتاب صديقاً وأنيساً، لا يعطله قطع تيار كهربائي، وليس له مكان محدد ليُقرأ فيه، إذ يمكن أن يكون في اليد، أو في الحقيبة، أو في المنتزه، أو في الحقل، أو على سطح المنزل، أو في الحافلة، أو المقهى، أو الطائرة أو القطار. عندما تفتح الكتاب، ينشر رائحة تتغلغل في الغدد الأنفية، لتنعشك، اقرأ وأنت رافع رأسك أمام كل من يشاهدك، لأنه سيعجب بك، وقد يحذو حذوك، جرب أن تختار بعض الكتب، ولا تستعجل بقراءتها، تأنّ، وسوف لن يطول بقاؤه بين يديك، لو خصصت له ساعتين فقط في اليوم، ثم تضعه على رف وتأخذ غيره، لتنتهي منه خلال ثلاثة أيام، بالتالي ستجد نفسك قد اعتدت عادة محببة، بكل ثقة ستستفيد منها، عادة تبعدك عن الثرثرة واللغو والمجازفة بالعبارات المرسلة، التي لا معنى لها، وستجد نفسك أيضاً، قد حملت في رأسك أفكاراً عظيمة، لأنها ستجعل منك إنساناً مختلفاً، تستفيد لتفيد من هم حولك وتطورهم، ليتطور مجتمعك نحو حياة مزدهرة، جميلة ومرحة وفرحة وحرة، ولا تتوقف عند حد لتقول: لقد قرأت كثيراً من الكتب وكفى، بمعنى أنك وصلت إلى مستوى رضيت فيه عن نفسك. يقول سقراط: «لا شيء أضر بالإنسان من رضاه عن نفسه. فإن رضي عنها اكتفى وتوقف عن البحث والتطور». إن إقبال الناس على القراءة واقتناء الكتاب، ومعايشته واعتياد العلاقة به، يتطلب تضافر جهود النخب المثقفة، والقائمين على تسيير مؤسسات الدولة، التي تمسك بأكثر من ثمانين بالمئة من أطراف هذا الهم المؤرق والمتفاقم. إنها دعوة فيها من الرجاء والأمنيات، ما يجعلنا نسير أولى خطواتنا باتجاه الحل، إن نهوض وزارة التربية، ووزارة التعليم العالي، بإصدار أوامر وقوانين وزارية، تحفز كل المدارس والجامعات على اقتناء الكتب المختارة، التي تصدر في سوريا بكل المجالات، ما يشجع الكتّاب على الاستمرار في إنتاجهم، ورفع سوية المواضيع المطروحة للكتابة، والتميز في جميع أجناس وأصناف التأليف، ويشجع أيضاً الطالب والمعلم والمدرس والأستاذ الجامعي، على الاطلاع وقراءة ما ينتج من فكر وعلوم وآداب، ويتم الإيعاز للمدرسين والأساتذة، لتوجيه طلابهم نحو قراءة كتاب محدد في كل شهر، ويطلب منه أن يشرح بعض أفكاره، والتعليق عليها من وجهة نظره. تُرى لو بدأنا منذ الآن ولمدة خمس سنوات مثلاً، مع ما يطرح من تجديد وتطوير للمناهج في بلادنا، ألا يُحدث تغييراً في عقلية الكادر التعليمي وفي كل المستويات، ونلمس انعطافة هامة من قبل النشء، باتجاه الاهتمام بالكتاب الثقافي والعلمي والأدبي؟ إننا إذا بقينا ننتظر التغيير في ذهنية المجتمع دون أن نحفزه ونوجهه، لن نرى أي تحسن تلقائي نحو الاهتمام بالكتاب، ولا بالثقافة والمعرفة، ولن يتم التغيير والتطوير، وإذا لم يتم التوجه نحو قراءة الفكر والأدب والعلوم الضرورية للبناء الحقيقي، فإن النشء سيتجه نحو كتب الأبراج والطهو، والدعاة الجدد، والفن الرخيص الهابط، وكتب الجن والعفاريت، ودفاتر المشعوذين، التي تغرقهم في الجهل، وتبعدهم عن أولى خطوات الوعي، التي تبني إحساساتهم وعقولهم، ليكونوا أفراداً إيجابيين، يساهمون في صنع الحياة الحقيقية المنشودة، الغنية بالمعرفة والخير والجمال. |
|