تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


إنتاج الثقافة وجدلية القول والفعل

ملحق ثقافي
10/4/2012
سمير حماد:الثقافة منتج إنساني واجتماعي وحضاري، وهي حصاد المجتمع الناتج عن علاقة الإنسان بالمحيط الذي ينتمي إليه،

اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، ليقيم تكافؤاً مع ما حوله، والذي يشكل له تحدياً وتهديداً مستمرين. والثقافة بالمجمل هي ناتج هذا التحدي والتهديد،‏

.

فهي تحدد رؤية الإنسان للواقع، وتشخص رؤيته للحياة وكيفية التعامل معها، ربما يستطيع من خلال هذه الثقافة، التخفيف من آلامه وأحزانه، وتساعده لإيجاد معنى للحياة، من خلال التفكير والتأمّل، بمجريات العصر الذي ينتمي إليه. والثقافة ،إضافة إلى كل هذا، تحاول أن تساعد في الوصول إلى الإجابة على سؤال هام هو: لماذا نحن هنا؟؟ بل هي تطرح أسئلة، أعمق وأشمل من هذا بكثير، محاولة منها، التعاطي مع مسألتي الزّمان والمكان الهامتين، بالنسبة لأي مواطن عربي، وسط الظروف الراهنة، وهي تدعو من خلال هذا الاحتكاك، للتغيير المستمر، إسهاماً في تطوير الذات والمجتمع، بالرغم من الحواجز المضادة، والعوائق الأزليّة، ممثلة بالثقافة السكونية، التي تدعو إلى العودة إلى السلف، وإلى عصر ذهبي ولّى، وحامل هذه الثقافة إنسان كسول، لا يقبل تحدي الواقع وتطويره، بل يركن إلى ما لديه من معرفة، دون حاجة إلى تغييرها، أو تجاوزها، وصولاً إلى العصر الراهن، وما تمخّض عنه من منجزات واكتشافات، في شتى ميادين الحياة، العلمية والنظرية.‏

الثقافة التي تسجن نفسها في الماضي، ولا تعطي الحرية الكاملة في التعاطي معه نقداً أو تحليلاً، هي ثقافة جامدة لا تتقدّم، فالمستقبل هو الذي ينبغي أن يحكم الماضي، ومنه نتلقّى الأوامر.‏

أما ثقافة التغيير فهي إضافة إلى مواجهة الثوابت، والمسكوت عنه، ترى أن التطور الحضاري، ليس مجرد حيازة المنجزات الحضارية، بل المشاركة في إنتاجها، والاستمرار في تطويرها، حتى لا يتحول المجتمع إلى مستهلك لما ينتجه الآخرون، وهذا لا يكون إلا بامتلاك القدرة على إنتاج الفكر، والمعرفة والعلوم والآداب، أي إنتاج الثقافة بشكل عام، على اختلاف مصادرها واتجاهاتها، وهذا لا يتناقض مع الاهتمام بالجذور الفكرية، فالتراث جزء من المعطيات الحضارية، ولكنه ليس كلها، وحماية الموروث والفكر السلفي، لا يتناقض مع الإيمان بالأدمغة، وقدرتها على الكشف والاختراع. وهذا ما يساعدنا على الخروج من المأزق التاريخي، الحضاري، الذي تعيشه أمتنا، والذي يعيق قدرتنا على النهوض، كما أنه يساعدنا على الخروج من المغالطات القاتلة، والمقولات المعرقلة، والتي أفلح الغزاة، من خلال الفكر الاستشراقي، الذي كان ملهماً لاستعمارهم، ومقدّمة لسطوتهم العسكرية، في نشرها وتعزيزها، ما أدى إلى عزلنا عن تراثنا وثقافتنا، وخلقوا عندنا القطيعة مع العلم والفن والمعرفة، والعصر بشكل عام.‏

إن الثقافة التي لا تملك رؤية مستقبلية، تتحول إلى ظاهرة صوتية، تدور حول نفسها على المنابر والمسارح، وفي القنوات الفضائية، وأوراق المطابع والصحف. والمثقف الحقيقي هو من يأخذ دوره في المجتمع، ويعمل بأجندة وطنية، تضع في رأس اهتمامها التغيير والتطوير، عبر مخاطبة الرأي العام، ويكون حاضراً في العمل السياسي والاجتماعي، من خلال المؤتمرات والمظاهرات والندوات، والصحافة والتلفزيون، وإذا لم يتوفّر هذا، يجب أن يسعى إليه، مدركاً أنه صاحب دور فعّال وأساسي، ولا يجوز أن يتقوقع أو ينعزل، وما هو أكثر أهميّة عندما يرتبط كلامه بالسلوك، فعندها تتكون المقدمة الأولى للفعل، إذ لا فعل دون مقدمة نظرية، وهذه المقدمة النظرية، هي الكلام العلمي المنطقي، القادر على الدفع إلى العمل، وإلاّ تحول إلى ظاهرة صوتية.‏

والثقافة بشكل عام تحمل بعدين كما هو معروف، بعد نظري تنظيري كلامي، وبعد سلوكي على المستوى الفردي والجماعي، وكل هذا يساعد على الدخول في الحالة الحوارية بين الذات ونفسها، وبين الذات والآخر، وهي حالة حوارية جادة تقود إلى توضيح الكثير من الأفكار الغامضة، والتفاهم على الكثير من المسائل الشائكة، بل وتسهم في توليد أفكار جديدة، وكثيراً ما تحفّز المتحاورين إلى ربط الأقوال بالأفعال، والنوايا بالأعمال. والحوارات الثقافية هامة جداً، وأبرزها تلك التي تتمخض عنها المهرجانات والملتقيات، والندوات، وشتّى المنابر المختصّة بنشر الفكر التنويري، إذ يتمّ خلالها إضاءة الزوايا المعتمة، كي يستطيع المواطن العادي رؤية ما تطويه ظلمتها من أسرار، والاطّلاع على ما تخفيه عتمتها من أفكار، وكشف ما تتستر عليه حجبها من حلول وأجوبة، لتكوين موقف سليم منها، سلباً أو إيجاباً، وفق ما تقتضيه مصلحة الوطن، والتي يجب أن تعلو فوق كلّ مصلحة، دون خوف أو وجل.‏

ولكن المشكلة في هذه المساحات ومساجلاتها ونقاشاتها، أنها فقيرة وغير قادرة على شحذ الفكر، إذ يسيطر عليها الخوف من السلطة الاجتماعية، وهي التي ما تزال تحتفظ بقسوتها وقدرتها على التأثير، مسلّحة بالعادات والتقاليد والأعراف التي لها في بعض الأماكن والعقول، قوة القانون، ناهيك عن سطوة الناحية الدينية، وسيطرة رجال الدّين، وقدرتهم النافذة في كثير من المناطق، وتحكّمهم بالكثير من النّاس، على اختلاف مستوياتهم وأعمارهم، وخاصة في البيئة الاجتماعية التقليدية، سواء في المدن أو الأرياف.‏

إن هذه المنابر، بالرغم من كثرتها وانتشارها، على امتداد الساحة الوطنية، في المدن والأرياف، وعلى الرغم من إغداق الأموال عليها، إلا أنها محصورة بجوانب نظرية وشكلية، ومنافسات لا تحمل الهمّ الثقافي، أو الجانب المعرفي، بل تكرس الاهتمام بالمظاهر، والتبجح النفاقي لطبقة أو فئة، قد لا يخرج اهتمامها عن مصالحها، إذ من أخطر السلبيات التي تواجه الثقافة، هي تلك القنوات والمنابر، التي لا نخرج منها إلا بنتائج متواضعة، على الرغم من الضجيج الإعلامي حولها، والبذخ المادي، لكن لا يخفى على أحد أن هذه الملتقيات، قد تقزّم دور المثقف، الذي همّه التنقيب عن الحقيقة فقط، وعليه أن يكون خارج الإطار الرسمي، المرتبط بالمنافع المادية، أو المناصب الإدارية والمكافآت المزيفة، حتى لا تتسع الهوة بينه وبين المجتمع، فيفقد آلية الوصول والإيصال، وتنكسر الجسور بينهما وتتقطّع، وهذا ما يفسر الإحباط السائد بين المثقفين.‏

لقد أقيل المثقف، واستُغني عنه سياسياً واجتماعياً، فأُحبط وانكفأ على ذاته، وما عاد يهتم بالشأن العام، إلا في حالات نادرة، إنها ثقافة الخواء واللامعنى. والخطورة هنا، أننا سنجد أنفسنا أمام مثقف، غير قادر على الخروج بالمجتمع، من دائرة الوهم والتخلّف والرّكود، إلى دائرة الحلم، وواحة الحرية، وجبهة المقاومة، ونحن نوافق أدونيس الرأي إذ يقول: «إنّ مشكلة العرب الأساسية، منذ نشوء الدولة العربية الأولى، هي مشكلة ثقافية، إنسانية، في المقام الأول، مشكلة الاعتراف بالآخر المختلف، واحترام الإنسان بوصفه إنساناً، أيّاً كان فكره أو معتقده، ونبذ الواحدية، والتمسّك بالتنوّع والتعدد، نعم إنها مشكلة ثقافية قبل أن تكون مشكلة فقر أو تنمية، أو اقتصاد، أو استعمار، والدين في قلب هذه المشكلة».‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية