|
ملحق ثقافي كان لا يعمل إلا بتحريض إلهامي فما هي صورة هذا الإلهام؟ وإذا كان يمكنه أن يعمل ارتجالياً فهل يمكن أن نسمي ما يقدمه إبداعاً؟ الواقع أنني كنت حتى وقت قريب أتهم فئة من الأدباء والشعراء والتشكيليين والموسيقيين بأنهم يرتجلون أحياناً، لكنني أدركت مع الوقت أن الارتجال مجرد وهم لا وجود له في الحقيقة، حتى ما نتصوره عملاً جاء عفوياً من دون محفز أو محرض هو في الحقيقة جاء أيضاً بحافز غير مدرك. ما دفعني إلى هذا التحول- وحق العدول مكفول لكل إنسان إذا أدرك أنه لم يكن مصيباً- واقعة طريفة حدثت أثناء حضوري إحدى الندوات الشعرية لتكريم أحد الشعراء، وعلى غير المتوقع فاجأ الشاعر الحضور بعدة أبيات رائعة قال إنه ارتجلها لتوه، دفعني الفضول من جهة والإعجاب بالأبيات من جهة أخرى إلى أن أتحدث إليه، وأهم ما خرجت به من الحديث أن الرجل التبس عليه الأمر حين زعم أنه ارتجل الأبيات وأن شيئاً لم يلهمه إياها، إذ لاحظت أنها جاءت من وحي التكريم وتفاعل الشاعر معه، أي أن ثمة مثير حرك ملكته فأشعر، ساعتئذ عرفت أن لا مكان للارتجال في نتاج المبدع، فمادام قد أبدع فمن المحتم أن هناك ما أثاره حتى وإن كان مجرد شيء داخلي في نفسه لاح إلى العالم المحسوس أو ذكرى عابرة طافت بمخيلته فجأة. هكذا وجدتني اجتهد وأبحث بحثاً ذهنياً عن لحظة يمكن أن تمر علينا من دون أن نلاقي على الأقل واحداً من أسباب التجلي فلم أجد إلا السويعات التي يغلبنا فيها السبات، وحتى هذه لم أحصل على تأكيد بأن المثيرات لا تداهمنا فيها، مادمنا نحلم أحياناً ثم نصحو لندون ما حلمنا به من عمل إبداعي جديد. مظاهر الطبيعة: بحر ورمال، صحارى وكهوف، زهور وأشجار، مروج وجبال، ثلوج وأمطار، أعاصير ورياح، زوابع وفيضانات، زلازل وبراكين.. آيات الكون: نور وظلام، شمس وقمر، نجوم وكواكب، شهب ونيازك، سماء ومجرات.. الانفعالات: حب وكراهية، إعجاب وازدراء، حزن وفرح، سخط ورضا، هدوء وغضب، إحسان وإساءة، تواصل وجفاء، عفو وانتقام، شكر وحسد، عدل وظلم، وحشية ووداعة.. أماكن وجودنا: بيوت وشوارع، متنزهات ومعتقلات، مشاف ومآتم، أعراس وسمر، مؤتمرات وزيارات، عزلة واجتماع، طائرات وسفن، قطارات وسيارات.. أحوالنا: فقر وغنى، حرب وسلام، مناظرة وخصام، استقرار وفوضى، ايجابية وسلبية، كلام وسكوت، قعود وارتحال، تعبد ومجون.. أجسادنا: عافية ومرض، بدانة ونحول، قوة وضعف، تناسق وفوضى، عجز وصحة، عاهة وكمال، قبح وجمال.. تلكم أغياض من أفياض، كلها ملهمات وأمثالها كثير يستعصي على الحصر.. فمن ذا الذي يمكنه أن يجزم أنه حين ألف قصة أو رواية، أو نظم قصيدة أو بيتاً، أو رسم لوحة أو نحت تمثالاً، أو لحن معزوفة أو أغنية، لم يكن متفاعلاً مع واحدة على الأقل من تلك الملهمات أو ما يشبهها؟ من يدعي أنه كان خلواً من أي منها في أية لحظة من لحظات حياته فإنه يدعي بما لا يمكن تصديقه. هذا ما دفعني دفعاً لأن أهجر فكرة الارتجال ودورها فيما نقرأ أو نسمع أو نشاهد، بل أيقنت بأن إقران أي عمل إبداعي بفكرة الارتجال يجرد هذا العمل من أبعاده وصوره الجمالية وعمقه الفني. |
|