|
كتب أن تجتاح اللغة حرائقُ الجراد, فلا تترك غير حفنة من رماد يرفعها عالياً؛ لتقبلها الشمس ثم يمضي؛ في حين قبضة الرماد تتشكل خلفه كدخان سيجارة يمجها كما القطار يلتقط السكةَ الحديدية بين شفتيه. «هواء ثقيل» لا يصلح للطيران وليس قادراً على حمل غيمة وأثر الفراشة فيه يضيع وماذا بعد!؟ هكذا يعتب جوان تتر ديوانه/ غرفته / تنفسه ثم يقول لك تفضل, الباب لا مفاصل له, فلا تجزع إنْ سقط! وتتردد قهقهاته ويسألك: ما المضحك!؟ «الطفل الأصم /عامل الفرن/ تعمدوا تنبيهه بصفع خلف الرقبة « ميتا سخرية, تهكمية, ثيمة متكررة في الديوان, يرومها جوان لحلحت الجليد عن أصابع الكلمة ومفاصل المعنى وروح المتلقي, فرغيف المعنى الذي سيشبع معدة القراءة, لن تهضمه مرتاحاً ولن تنفع معك علبة من مشروب غازي كل ما سيحدث أن الصفعة ستصبح صدى كلماتك, أين تهرب؟ إلى الصمت ومن ثم التأمل في النسق المفضي للصفعة, فتعمد إلى فك العزقة الكبيرة التي تثبت قضبان طمأنينتك, لجمالية الرغيف المتوارثة. التهكم وإن كان يقوض المعنى السابق إلا أنه يتناص معه, فهو يبقيه كخيال والهدف أن تبقى الدهشة في حالة تأهب كجندي في نوبة حراسة, فالمعنى, إنْ غمض له جفن أسن. أنا متشظية كضوء في فسيفساء: لا يتقنع الشاعر بالشخصيات كما في السرد, فهو عادة ما يقدم نفسه كوجبة دسمة تورث الجلطات القلبية, فأناه هي الباحة الخلفية التي يلعب بفنائها, يداعب قطة, يلوث ثيابه, يمارس عادته السرية, ويغزو أعشاش الطيور, ويعشق ظلّ أول نهد يصادفه ومن هناك يسمع صوت أمه يناديه, فيصم السمع ويستمر, بتقليد حتى يتعب قلمه «أيتها الأم, لا تخجلي من خطايا ولَدك, اسمعي فقط/ ستنشد الملائكة خجلة أفعاله:........ كان يختلس النقود من محفظة شقيقه ثمناً للجعة الرديئة, يكذب ليلاً, نهاراَ واضحاً كالشمس, يحرق ساعات الليل الأخيرة مضاجعاً أطياف بنات الحي القاصرات, في رحم كل طيف قاصر, حيوانٌ منويٌ منتحرٌ /....../ كانت العائلة تنعته بالجنون, سواكِ: ليس مجنوناً (ولَدي شارع) عوضاً عن( ولَدي شاعر)». لا ريب أنّ الأنا, كذات, كالجاذبية الأرضية, كونها عماد وعي الوجود ولكن الشاعر رغم هذا الإكراه الهائل دأبه التحرر منها ليس إلى ضمائر أخرى بل إلى ما لا يدركه وهو بذلك, ينتمي للمجهول الذي يقد منه طريقه وهكذا تتضح مقولة أدونيس: قل قصيدة وامض زدْ سعة الأرض ومنها تغدو الكتابة عن الذات بقدر ما تصنع الهوية بقدر ما تتحرر منها لأن الهوية كالطريق تفنى الأقدام ولا يفنى « كل هذه الأرض/ ولا سنتيمتر يسعني» هو القلق ذاته يصيب الشعراء « على قلق كأن الريح تحتي/ أوجهها يمنة وشمالا» ولكنه قلق المدينة, قلق الألفية الثالثة, حيث الشاعر, اسقط من هويته قناع الفخر ويتهكم ساخراً ممن يعيبون عليه ضعفه, فيشرع بوجههم عورة الحقيقة فهو الذات المتشظية في فسيفساء الوجود « كنت السامع/ وقع خطا أقدامهم على البلاط المؤدي لردهة المقصف/ ذكرياتهم المثرثرة/ المدن الخاوية من الزحام/ كنت اسمع/ لكن لا أحد». سرد مقطعي وكولاجات ومشهدية: يعتمد جوان الجملة والمقطع كبنية في قصيدته ونقصد هنا, أنه الجملة أو المقطع مكتفية بذاتها دلالياً, فالدفقة الشعرية كوابل المطر لديه لكن ما يعنيه هو البلل المتحقق والبلل له طبيعة خاصة بحسب الشيء المبلول, هذا الفصل يخدمه بالانتقال الحر والسلس مادام يروم مشهدية يترك للقارئ حرية التلقي الكامل لبانوراميتها أو الاكتفاء بالجملة أو المقطع ومن ثم يشكل مشهديتها كما يريد, هذا يقودنا لما قدمناه أعلاه من رغبة دفينة أن يمحى المعنى ولكن هذه الرغبة المستحيلة تصطدم بأداة خلقها, فاللغة مهما طهرناها من أنساقها, تظل تحمل جرثومة النسق ومتى تظهر هي قضية حظ قد يوفق بها الشاعر والمتلقي وقد لا..!؟ « نفذت كل الأحذية / وأنا أطرد هذه – القطة –». هايكو: طعم جوان قصائده بالهايكو, تارة يفسح المجال له ليكون لوحده كما عهدناه شكلاً ومضموناً وتارة أخرى يضمنه بمقاطعه وهنا لا تضيع معالمه لاعتماده على الجملة والمقطع التام الدلالة, وهذا ما جعل قصائده تبتعد عن التشبيه والاستعارة لمصلحة آثار التشبيه والاستعارة التأملية الناتجة عن المشهدية الكتلية التي تتكرر بقصائده « أنثى تعتمر قبعة ثلجية وفستاناً طويلاً بني الملامح, تنتظر هبوط المصعد إليها». هواء ثقيل: حصل هذا الديوان على جائزة الملتقى الثاني لقصيدة النثر في القاهرة, به يثبت جوان تتر قدميه كشجرة منغروف في ماء الشعر, مقترحاً به أسلوباً يخصه إلى حد ما ولكن ضمناً, يشكل الديوان دفعاً لرافعة الشعر الذي يكتبه جيل جديد مِمَن لا تعنيهم قصة قتل الآباء ولا البحث عن عباءة؛ شعراء أيتام وهذا هو جمال الشعر أن يكون يتيماً يتبناه الأفق وهذا ما أتقنه جوان. هواء ثقيل صادر عن دار الكتابة الأخرى / القاهرة. |
|