تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الطريق إلى الذاكرة ودهشة البقاء

آراء
الاثنين 8/9/2008
حسين عبد الكريم

الطريق الى كسب, فقرية السمراء الممتدة غرباً حتى لسان البحر.. والجبال العنيدة, والبيوت المحتمية بذاكرتها وبساطة الزمن المتراكم عند حافات وعي البشر البسطاء كالشجر القديم, والراضين كدروب القرى والأسيجة القادرة على صد وهزيمة الخوف, رغم ضعفها وقلة ما في يدها من قوة ومتانة.

الدراما التي مالت الى القرى والقرويين, في الآونة الأخيرة أغلبها تلفيقية وضعيفة, لكنها تعتمد على المكان, كالذي شاهدناه في مسلسل /ضيعة ضايعة/.. عمل ركيك غاية في الركاكة, وجميع أحداثه تعتمد التلفيق والتضخيم والسخرية الضعيفة فنياً, لكن المكان القديم البسيط شدّ المشاهدين, لأنه خاطب في وجدانهم ومؤلفات أرواحهم الذاكرة والدهشة, واستعار كل مكونات المكان: الجدران الترابية والأسطحة والشبابيك واللهجة والشجر والحجر وأصوات الدجاج وصور الجبال والسهول والبحر والنهار القروي, ولم يضف فنياً إلا المبالغات, الهائمة على وجهها التي تعوّد عليها المشاهد في غالبية المسلسلات السورية الأخيرة....‏

السمرا أو السمراء بطلة بحد ذاتها, دون أية مسلسلات أو مبالغات, والنساء شخصياتها والرجال حراسها والدجاجات والأسيجة وصياح الديوك, والدروب السارحة الى البساتين وتحيات الهواء والنقاء.. كل مفردة في القرية المشلوحة بين الغيم والبحر والحب بطولة وذاكرة نقية, لم تلوثها فجائعية التحضُّر الكاذب..‏

أم آكوب أو يعقوب أو جاك, وجميعها تسميات سريانية أي عربية قديمة, بطلة من أعلى جدائلها الى أبعد خطواتها, الى صوتها المشبع برائحة المكان والزمان, وثيابها المبرأة من تقانة (الموضة) وأبهة الاستعراض.. تحمل بين يدي عمرها قنديل وجد القرى الأولى وتفاصيل عيش طيب, هي دائرة ضوء ودراما, وعمرها حلقات متعالقة مرة مع شجرات التفاح, ومرة مع العرائش ومرة مع الحطب القديم, ومرة مع الأولاد الصاعدين الى الألف الطويلة ودروس التعبير والنحو والرياضيات, ومرة مع الخبز والجيران, ومرات مع العائلة والأقرباء والزوج وأم الزوج التي تجاوز عمرها المئة.. أم آكوب رواية طويلة أو قصص قصيرة في مؤلفات قرية السمرا...‏

الانسان المعاصر قاتل ذاكرته بوحشية الجشع, حطم بهجة الرجوع, واعتدى على أسوار الدهشة, وفرّط بثرواته ذات الأهمية: البساطة المبدعة, والعفوية والطيبة وشجاعة الوضوح, لكن أم آكوب لم تفعل هذه الأفعال الذميمة تجاه ذاكرتها ووجودها وبقائها, ولعل الفقر ساعدها على البقاء مع تراث روحها وكيانها النقي: البيت بيت من حكايات وأيام وتراب, والنار من حطب يابس قديم, والثمار من جني وجد الأشجار المجاورة للبيت..‏

كثيرة محطات الضوء في قرية السمرا وفي قرى أخرى مجاورة, وكثيرات أمهات ال آكوب ويعقوب وحميد وحمدان وسلمان وعثمان وحسان وعمران.. قرى تخبّىء جمر روحها في مرحبات النساء ورائحة الحطب المشتعل وسط التنور..‏

لاشيئ يفصل بين المحبين والمكان سوى الخديعة, التي يمسك بها الضعفاء, خشية أن يسقطوا أمام ضوء الوضوح, لكن الذين يريدون الوصول الى المكان المحب والقرى الحنونة والبشر الحنونين يصلون بسهولة وبراءة ورضى..‏

والمسلسلات المعاصرة التي تبتلى بها أعين المشاهدين ليست أكثر من تشويهات وتلفيقات ومبالغات مؤذية, أكثر منها مجدية وأكثر منها فنية...‏

الفن الدرامي الراقي شيء, والتلفيقات والترقيعات باللهجة والسخرية والأحداث شيء آخر مناقض للفن الراقي..‏

لكن الركض وراء المال جعل الكتاب وأنصاف الكتاب وأرباع الكتاب وأشباه الكتاب والذين يخطئون في إملاء الصياح ونحو الدروب ومفردات اللغة.. الجميع صاروا كالجميع: الجاهل كالعالم والعبقري كالثرثار, والنصاب أخذ موقع الصادق, وصار يحاضر بالأخلاق, إذا أمكنه الكلام...‏

ضاعت ال طاسة يا أبا الطيب:‏

(وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم )‏

وأبو تمام يشهد على ذلك:‏

(زمنٌ علا قدر الوضيع به وغدا الشريف يحطّهُ شرفه‏

كالبحر يغرقُ فيه لؤلؤه سفلاً وتطفو فوقه جيفه‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية