تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


لماذا كلّ هذا العنف?!

محطة
الاثنين 8/9/2008
د. خلف الجراد

يستغرب بعض كتّاب الزوايا والأعمدة الصحفية, وخطباء المساجد وأصحاب البرامج الدينية والوعظية في الفضائيات.. انتشار ظاهرة العنف والتوتر والعدوانية في شهر رمضان المبارك, خلافاً لجوهر هذه العبادة والغاية التهذيبية من فرضها.

وقد يرجعها بعضهم إلى التغيرات البيولوجية والعصبية والنفسية, الناتجة عن الجوع والعطش أو الانقطاع عن التدخين وغير ذلك من أسباب. في حين أن لبّ المشكلة يكمن في حالة التوتر الوجودي العام, الذي يعاني منه الإنسان في المجتمعات المتخلفة, حيث تتكون حياته من جملة متراكمة من مشاعر الإحباط والخيبات والظلم والقهر, فتميل علاقاته نتيجة لذلك إلى أن تكون متفجرة وعنيفة ومندفعة نحو القسوة وردود الفعل غير المتوازنة, فلا يفلح شهر الصوم في تشذيب أو ضبط إيقاعات سلوكية, أصبحت راسخة تقريباً في بنية الشخصية وقوامها واستجاباتها الانفعالية.‏

وهنا, لا بدّ أن كثيرين منّا يذكرون العمل العلمي الريادي في هذا المجال, الذي أصدره الباحث الاجتماعي العربي الدكتور مصطفى حجازي في عام 1981 (ثم أعيد طبعه مرات عديدة في السنوات اللاحقة) تحت عنوان (سيكولوجية الإنسان المقهور).حيث قدّم في ثناياه تفسيرات علمية-موضوعية وواقعية لمعاناة هذا الإنسان وإحباطاته, وانعكاسات ذلك كله على نفسيته وأعصابه وسلوكه اليومي, ما يجعل إمكانية تفجّر العنف (الفردي أو الجماعي) كبيرة جداً وجاهزة للاشتعال في أي لحظة, ولأي سبب أو إشارة.‏

وقد أكدت الدراسات الميدانية أن الانسان المقهور في حالة نفسية دائمة التعبئة والجهوزية للانفجار. نلاحظ ذلك من التوتر العام الذي يبدو جلّياً على محيّاه وفي حركاته. فلأقل الأسباب تتفجر العدوانية على شكل سيل من الشتائم والسباب. كما أن معظم النقاشات تتدهور إلى المهاترة وتبادل التحديات والتهديدات. إذ سرعان ما تختفي العقلانية وروح الحوار الإيجابي, لتحلّ محلّها الانفعالية ومحاولة كل طرف إثبات تفوقه وانتصاره, وإظهار الطرف الآخر بمظهر الغبي والجاهل والمهزوم. زمن الحوار الهادئ قصيرٌ ومختصر للغاية.. فمن الكلام ينحدر الحوار بشدة إلى السباب وتبادل النعوت المسيئة والشتائم, ثم إلى التهديدات, وقد تتطور الأمور إلى الاشتباك المباشر بالأيدي والعضلات, أو حتى إلى استعمال السلاح.‏

والسبب النفسي - العصبي العميق لهذا السلوك المتوتر, أن كلا الطرفين مُعّبأ تماماً. ويكفي أقل اصطدام أو نقاش ساخن حتى ينفجر الموقف, بشكل يصعب ضبطه وتهدئته والسيطرة على مجرياته. وجنايات القتل الفجائي إثر مناقشات عادية أو (خناقات) بسيطة (كما يُطلق عليها باللهجة العامية) كثيرة الحدوث, وقد تتنامى لتتحول إلى صدامات عرقيةأو عشائرية أو طائفية أو مذهبية, لأن برميل البارود كان جاهزاً أساساً ولم تنقصه سوى الشرارة الأولى, التي تشعل الفتيل.‏

ويرى الباحثون في هذه الصراعات العنيفة نذراً على ارتفاع درجة التوتر العام إلى حد خطير في المجتمع, ما يهدّد باجتياح كل الخطوط الحمراء وتجاوز جميع المحرّمات. ذلك ما شهده لبنان في الأعوام القليلة التي سبقت انفجار العنف الشامل أو الحرب الأهلية, التي زلزلت أركانه, وهددت بنيته بصورة جذرية, وما زالت آثارها وعقابيلها المدمرة تتفاعل إلى الآن.‏

تلك كارثة (يقول الدكتور مصطفى حجازي) قابلة للتكرار من آن لآخر, في هذا أو ذاك من مجتمعاتنا.. ومخاطرها واردة ما لم توجه طاقات الناس باتجاهات البناء والتغيير, الذي يعود خيره على الجميع.. وما لم يشعر جميع الناس بالمساواة وحقوق المواطنة التامة, وما لم تُحترم إنسانية كل فرد منهم, ويحس أن له كيانه المستقل, ووجوده الضروري في الأسرة والجماعة والوطن على حدّ سواء.‏

حكمة تراثية: العاقل من يعمل في يومه لغده, قبل أن يخرج الأمر من يده.‏

www.khalaf-aljarad.com‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية