تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


من ذكرياتي.. مع شعراء الحداثة.. محمد عمران 2 من 3

ثقافة
الاثنين 8/9/2008
نسيم يرف على قلبي وأنا أزهر بهذه الكلمات مع الراحل محمد عمران, وذكريات تمطر في صدري كنور الفجر, وأنا استحضره ماثلا في وجداني .. إنه صديق الندى والورد, والبحر والنوارس,

والحزن والوحشة, صديق السنوات الحافلة بالرعد والبرق والشتاء والخصب والحب الإنساني والطيبة العامرة, وصديق المواقف المترعة بالآمال الثورية التقدمية على صعيد الوطن والأمة, وصديق الشعر بكرا والنشيد حرّا, والسفر إلى رحابة الحياة وعلى طائر الحنين والشوق إلى عوالم مجهولة لا يملك زمامها ويدخل في ملكوتها إلا شعراء التجليات وعشاق الصوفيات وما أقلهم وأندرهم في وجودنا..!!‏

في عام 1967, صدرت أول مجموعة شعرية لشاعر التراب المعشوق والأرض الغالية, والتجديد المغموس بالتراث والابداع والمعجون بالأصالة والجدّة محمد عمران, عن وزارة الثقافة السورية بعنوان(أغان على جدار جليدي) فشغفتني بحداثتها المغايرة وشعريتها المجددة وقصيدتها النوعية ولغتها المتفردة, ولم أكن أعرف صاحبها إلا من خلال نشاطه الأدبي في الصحافة عندئذ حيث التقينا مرارا على صفحات مجلة(النقاد) خلال النصف الثاني من خمسينيات القرن المنصرم وكنّا على عتبات الشباب الأول, ولإعجابي بها, نشرت في مجلة (الطليعة) الراقية التي كانت تصدر عن جريدة (البعث)أسبوعيا ,دراسة نقدية هي الأولى عنها, توقفت فيها أمام مضامينها المنتمية وأشكالها المستحدثة, ثم دعيت الى اجتماع أدبي انعقد في المركز الثقافي العربي بدمشق, وحضره مجموعة من الأدباء, كهيئة تأسيسية لتشريع اتحاد الكتاب العرب في القطر واستصدار مرسوم إنشائه, كان ذلك في ربيع أو شتاء عام 1968, لم أبق ذاكرا ,.. وبعد نهاية الجلسة, وبالحدس والاستشراف, ومن دون أي معرفة سابقة تقدمت منه وتقدم مني قائلا ( ممدوح..أليس كذلك?..) وصافحته بحرارة وود, وظلت صداقتنا الشفافة العميقة على دفئها وودّها ونبلها, ثرية ندية منذ ذلك اليوم إلى أن غيبه الردى في 22/10/1996, بعد معاناة ضاغطة, نفسية وجسدية, من جراء المرض القاسي الطويل ...‏

أنا وهو كنا جسدين في روح واحدة .. لا أنساه ما حييت..!‏

زارني الصديق الفقيد الشاعر محمد عمران في منزلي ربيع عام 1972, في الخامس عشر من شهر آذار لتلك السنة فقدمت إليه دفتري في نهاية الزيارة أستكتبه فيه, فأثنى على هذا التقليد المؤثر الحنون, وكتب بأسلوبه الخاص الذي هو الشعر أو كالشعر, الإشراقة التالية.. أستأذن روحه الرفافة علينا وهو في حضن أمه الأولى, أن يسمح لي, كعادته في الكرم ,بنشرها:‏

( لماذا أحس الراحة في حمص?..كلما جئتها أحسست قلبي يتفتح كزهرة كانت نائمة.. هنا, بينكم, نحيا الحياة.. في دمشق نعيشها.. هل أحدثك عن الصدأ الذي يأكل وجودنا في دمشق..?!‏

كانت دمشق حلما ذات يوم.. يوم دخلتها... تصورت العالم يرتمي في يدي ..الحب والمرأة والشعر والجنون.. في البداية كانت دمشق كل هذه الأشياء . ماذا حدث إذن .. لا شيء.. سوى أن الأقنعة سقطت.. وفجأة يكتشف الشاعر .. الإنسان.. أن كل شيء مزيف.. غير حقيقي ..كاذب.. ويحس بالخيبة.. ويحس أنه محاصر .. ويحس أنه يكاد يختنق.. حين أخرج من دمشق باتجاه حمص. أتنفس بارتياح..هنا الوجوه عارية منذ البدء . والأصدقاء هنا أكثر حقيقة. أكثر صدقا..‏

إنني أحبكم ..أنت.. عبد الكريم.. فرحان.. أحبكم جميعا.. وأشعر معكم أني أقبض على ذاتي .. ألهذا أحس الراحة في حمص..?يقينا.. فما حمص لولا أنتم..).‏

(الملاجة).. قريته.. بالنسبة إليّ ولغيري من المولعين بروعة المناظر الخضراء الخلابة في ربوع بلادنا الحبيبة سورية رمز المهابة والجلال, فوق تلة تثوي, تحيط بها الهضاب, وتهوي حواليها الأودية.. هي الشعر الصافي, وحدائق الإبداع والماء يترقرق في سواقيها السلسة وينابيعها الصافية.. زرتها مرة.. وحللت في ضيافة الراحل, صديقا محببا الى قلبه وأسرته,كما هو إلى قلبي وأسرتي, وكانت الطبيعة الجميلة الساحرة بقمر صيفها صديقتنا الأروع, نحبها على اسم الماء والهواء, تصحبنا في نزهاتنا الليلية البديعة كأفتن امرأة وأشهاها.. وعلى سيرة المرأة, أذكر أنني قلت لمحمد بعد أن قرأت قصيدته ( نشيد لسيدة الدفء العالي) أو (نشيد لسيدة السواد) أيهما.. لا أوقن ..من هذه المرأة العظيمة التي أوحت لك بهذه القصيدة العظيمة, فصحح لي: بل قل من هذا الشاعر العظيم الذي صنع من إيحاء امرأة عادية قصيدة عظيمة?!.. وزرت (الملاجة) ثانية يوم عزينا أنا وبعض زملائي أعضاء اتحاد الكتاب العرب في حمص أسرته بوفاته, وفي (كتاب الملاجة)-ديوانه الصادر عام 1980 كنت أقرأ في ذاكرتي قصائد أدمن مبدعها حب الأرض والوطن والمرأة والشعر ومات وهو متعلق بالحياة حتى رمقه الأخير..‏

قصيدة محمد عمران لا يكتبها أحد سواه.. إنها نسيجه الخاص ,على نوله الخاص, بغزله الخاص.‏

شاعر بصير في زمن أعمى.. شاعر راء في عصر لا يرى.‏

هاآنذا أطبق دفتر الذكريات المهجور... المنسي.. وأعيده إلى موضعه, حيث كان الشباب زنبقة والعمر متعة والشعر حلما والحب سماء.. ثم أخلد إلى فراغي , أمضغه كما الرمال.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية