|
ثقافـــــــة وفيها ذاكرة للمكان، وترك الراحل أثراً غنياً بعد أن التحق بعمال سد الفرات ليعيش بينهم وهم يعملون على تبدل البيئة المناخية، والزراعية، والاجتماعية، والنفسية، في مشروع كان الأول من نوعه.. فجاءت رواية فريدة ربطت الأدب بالاقتصاد لتأخذ مادتها عن ضفاف النهر الذي آن له أن ينصاع لإرادة أولئك العمال، وليكتب الراحل انطباعاته إبداعاً وهو معهم في الصحراء، والغبار، وقسوة الطبيعة، ويحمّل الرواية تفاصيل قوة مواجهة الإنسان للماء، والتحايل عليها ليخضعها ويسخرها منطلقاً صوب المستقبل المخطط له، وكما كان العمال يقيمون البناء كان يصنع حبكته الروائية، التي جاءت بنفس قوة الحديد والإسمنت، في شخصيات حية قاومت وضحت من أجل الانصياع، وإذا ما وضعت هذه الرواية في مرآة الدراسات النقدية فسوف تكون مختلفة ليس من جانب الأفضل أو الأسوأ، ولا الأكثر و الأقل، بل لأنها تضمنت محاكاة بين الطبيعة والإنسان، ولا بد أن الخيال سوف ينقل المتلقي ليتصور ماذا كان وكيف أصبح، ومن يبحث عن سد الفرات أدباً وصورة ما قبل وما بعد، فسوف يأتيه الجواب.... إليك برواية فارس زرزور التي نقلت التاريخ ولم تغرق فيه، وحددت الملامح ولم تأخذ منها إلا شخصيات استعذبت القهر فعاشته نشوة انصياع للذي كان من الصعب أن ينصاع، حصل ذلك في أرض زاخرة بالحكايا والأسطورة مجبولة بتاريخها منذ الإنسان الأول متنقلاً حتى بداية صنعها السد، ولم يكن الكاتب إلا واحداً من أولئك العمال وقد شاركهم القسوة متعمقاً في شخصياتهم وهمومهم، وما الرواية الخالدة إلا تلك التي تستمد مادتها من شخصياتها، لم يأخذ زرزور حقه، ولعلّ الناس الذين عرفهم أخلصوا له في وجوده لكنهم بعد مماته نسوه، وفي زمن كهذا ينسى المبدعون والمفكرون وكان من الوفاء أن يقام له سنوياً وفي موقع السد احتفالية لأنه قدم للتاريخ المعاصر انجازاً أدبياً لن يتكرر، ورصد إبداعاً عملاً مجيداً في رواية مجيدة، وقد ساهم السد فعلاً في تغيير نمط الحياة التي كانت سائدة من قبله، ولم يأخذ الكاتب مكانته المرموقة بين الكتاب والنقاد، والجهة التي نفذت وقامت في الإنجاز الذي بقي حياً لكن الشغل الأدبي الذي رافقه حتى اكتملت نبضاته أهمل، وأغفل، وليس هذا مصير الأدب المكاني الذي تترسخ الذاكرة بين صفحاته، وروح الكاتب تحوم فوق الماء ومنافذها والفرات بكل ما عرفنا عنه، وبعض أشخاص الرواية ما زالوا أحياء ربما يذكرونه إن لم يفقدوها بحكم الغبار الكثيف والصدأ الذي يعلوها بعد فوات أوانها وعدم صلاحيتها للاستعمال، وهو من الذين آمنوا أن لكل إنسان قصة يمكن كتابتها، ووصل عبر أدبه إلى التفاصيل الصغيرة لأبناء وطنه، وجعلهم أبطالاً لأعماله الأدبية سواء في الرواية أو القصة القصيرة، داخلاً سراديب معاناتهم مشرحاً لحياتهم. منصهراً فيها، وكان قد نشر أربعة عشره مؤلفاً وهي رصيد حياته وبداخلها وهجه الخلاق، الذي تركه إرثاً للأمة تنتقل من محنة إلى أخرى، من انتكاسة إلى هزيمة مرتدية ثوب الخيبة، لكن شجرة (البطم) في تل العزيزات بالجولان المحتل بقيت منتصبة، ولم يقبل قبل وفاته بأنها التوت أو قلعت و جذورها أقوى، وهي من إحدى رموزه، معبراً عن نكسة حزيران، والمثير في حياة الراحل أن الأدب داهمه بالمصادفة، ففي عام 1948 ومع بداية شبابه عين مدرساً في الجزيرة السورية ليجد داخل حانوت صغير عدة كتب تلف الحلوى بأوراقها للصغار، فأخذها (كنت ضجراً وأريد القراءة للتسلية) هذا ما علق به على تلك الحادثة، التي ساهمت بصنعه أدبياً وفجرت موهبة الكتابة عنده، وقال معرفاً بقصصه القصيرة (قصص اجتماعية وعسكرية، فخلال وجودي في الكلية العسكرية بدأت أكتب قصصاً عن الحكايات التي كنت أسمعها من العسكريين عن المعارك التي خاضوها وعن مشاكلهم وواقعهم، أما من الناحية الأخرى فأكثر ما كنت أهتم به هو قضايا العمال والبسطاء من الناس والجائعين بصورة خاصة، والذين ليسوا بحاجة إلى العيش وإلى الخبز وحده ولكن للحرية والحب والأمل في الحياة) عاش فقيراً ومات على حاله، ومن الواجب تخليده، كما السد تماماً، ليبقى في ذاكرة الأجيال القادمة، لكننا في زمن النكران هذا نجحد بحق مبدعينا مفكرينا وقد سيطرت حداثة التقليد المستوردة لتنسف ما هو أصيل في قيمنا وحضارتنا، فلماذا يحدث ذلك؟ وقد آن أوان الصحو قبل أن نضيع التاريخ. |
|