|
آراء منذ لحظة مدّ اليد لمصافحة الأحبّة لاحظ الأصدقاء أنّ التصنّع يغلّف بعض عباراته ، وفهموا على الفور أنه يريد أن يظهر بمظهر رجل العلم الوقور ، ذلك المظهر الذي يعطي صاحبه وزناً ( أثقل) من وزنه الطبيعيّ والحديث هنا بالطبع عن المكانة الاجتماعيّة ، لكنّ فرحتهم بعودة الغائب جعلتهم قادرين على تجاوز هذه الملاحظة الطفيفة. في اللّقاء الأوّل الذي جمع رفاق السهر والأرق لاحظ المجتمعون أنه بالغ كثيراً في الاحتفاء بالدولة التي أسعفه الحظّ بنيل شهادته العليا في جامعاتها ، لكّنهم لم يعترضوا لأنهم لم يتعرّفوا على إمكانات تلك الدولة علميّاً ،وربّما شعروا بالألم عندما حاول النّيل من سمعة جامعاتنا التي كان له شرف الجلوس على مقاعدها للتزوّد بالعلوم العصريّة قبل أن توفده الجامعة التي درس فيها لنيل اختصاصه العلميّ ، وكاد الخلاف في وجهات النّظر يتحوّل صداماً بين المجتمعين ، لكنّ الأمور خرجت من عنق الزجاجة وانتهت بسلام. مضت الأيّام مسرعة في دورتها وحصل صاحبنا على وظيفة جعلت الناس يتطلّعون إليه بعين الحاجة ، فقطع آخر حبل كان يصله بالماضي ، وأخذ يدرّب نفسه على نمط جديد من الحياة تناسب الوضع الجديد الذي وصل إليه . رغم الغرور الذي انتابه ظلّتْ علاقته مع أصدقائه قائمة ، لأنهم آمنوا أنه سيعود إلى ما كان عليه من دماثة خلُق ولين طبعٍ عاجلاً أو آجلاً فصبروا على مضض على فظاظته وأصرّوا على أن تظلّ شعرة معاوية قائمة بينهم وبينه ولم يسمحوا بقطعها. ألحقته الدولة بدورات تدريبيّة كثيرة ، وصار مشهد الحقيبة المجهّزة للسفر منظراً مألوفاً من قبل أهل بيته ، وكان الأصدقاء يتهامسون فيما بينهم : لا بأس مادام الوطن هو المنتفع الأوّل والأخير بخبراته العلميّة التي أخذت تتراكم يوماً بعد يوم. في الفترات التالية أخذ حديثه عن فضل الوطن عليه يغيب شيئاً فشيئاً مشيراً إلى أنّ ( أناهُ) بدأت تتضخّم ، فصبر محبّوه عليه وكان صبرهم مريراً ، مذكّرين أنّ الجحود مضرّ بأهله ، وأسمعوه مراراً قوله تعالى ( إنّ الإنسان لربّه لكنود)) . فيما بعد انطلقت العربة في اتّجاهٍ عكسيّ وحلّ محلّ الحديث عن فضل الوطن عليه حديث عن فضله على الوطن ، ولم ندرِ حتّى يومنا هذا ما هو فضله على الوطن وما نحن بدارينَ !. كانت العزّة بالإثم تأخذه يوماً بعد يوم إلى مطارحَ بعيدة ومهاوٍ سحيقة وهو لا يدري ، بل كان لا يعلم بل لا يريد أن يعلم ، وضاق رؤساؤه ذرعاً بكبريائه الفارغة وصلفه الممجوج. كان ينبَّه إلى الخطأ برفق من قبل رؤسائه ، حرصاً عليه ، فلا يستفيد من التنبيه ، بل كان يفسّره حسداً آتياً من علٍ ، لأنّ الآخرين كما يتوهّم يحسدونه على ما وصل إليه من سعة أفق وثراءٍ معرفيّ وكأنه وحيد عصره وفريد دهره. استمرّ مسلسل الأخطاء ولم يكن صاحبنا ليرعوي ، إلى أن وجد قرار إبعاده عن منصبه على طاولته التي كان يدمن النظر فيها فأخِذ أخذ الذين كفروا . في ذلك اليوم أطلّت الشمس من خِدْرها ولم تتوقّف الأرض عن الدوران ، وحلّ محلّ الذاهب رجل عْلم وعملٍ يتمثّل على الدّوام قول الشاعر: ملأى السنابل تنحني بتواضعٍ والفارغاتُ رؤوسهنّ شوامخُ كان الوافد الجديد يحمل حبّ الوطن في قلبه ، ويترجم هذا الحبّ استقبالاً لكلّ ذي حاجة وقضاء حاجته بلا منّ لكي لا يفسد ما يسديه من أيادٍ بيضاء يجد إسداءها لزاماً عليه ، مؤمناً أن الزبد يذهب جفاءً وما ينفع الناس يمكث في الأرض ، وأنّ فضل الوطن على أبنائه لا يُنسى. |
|