تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الوطن المحيّر ..بفتح الياء وكسرها

شؤون سياسية
الأثنين 26-1-2009م
الدكتور نسيم الخوري

لم تطرح مسألة الديمقراطية في أي حقبة من تاريخها بالدفق والتناقض والحدة والغموض التي تطرح بها في لبنان في العقد الأخير،

وإذا كانت الطائفية كمرض مستشر في الذهن، باباً للكلام عن بناء المفاهيم السياسية والاجتماعية في هذا البلد المحير بكسر الياء وفتحها، فإن المناخ السائد بات لا يورث أجيال اللبنانيين (بالجمع) سوى الاختلاف والفروقات والتمايز والاضطهاد المتبادل والرعاية المتبادلة بين شرق وغرب أو الرفض المتبادل أو غيرها من الصفات المغرقة في السلبية، ويصبح التهميش والاستئثار والغبن والهيمنة والشتائم والسباب لوازم في الأحاديث والتصريحات التي تطفو على سطح الكلام اللبناني الكثير الذي يعلق بجذوره عند حصول الأمان بين المتكلمين مسائل أخرى مثل اليقظة المتجددة للمطالبة بالتقسيم والفدرالية والازدواجية التي تهدد الكيان غير المرتكز إلى استقرار.‏

هكذا يتجلى مصطلح الديمقراطية ومصطلحات أخرى مسائل مستعارة مغلفة بتضاعيفها بالخوف من الحروب المتجددة أو المتناسلة وتفاقم الهجرة والتهجير، وقد تصبح الديمقراطية دكتاتورية فعلية في ترسيخ الزعامات وتناول الحلفاء التاريخيين بأقذع النعوت، كما يحصل على ألسن الديمقراطيين، في تناولهم للحبيبة لا للشقيقة سورية التي رفعت كبرياءها في وجه الدنيا ومشت بعقل وتؤدة نحو التبادل الدبلوماسي الذي يتخذ خطاه العملية في لبنان، فعلاً، ما هذا الوطن المحير والمحير؟‏

لم تعد الديمقراطية مصطلحاً مستقلاً، يمكن استعماله، في الأحاديث والنصوص، من دون صفات تفسره، مثل الديمقراطية العددية أو المستوردة أو ديمقراطية الطوائف أو الديمقراطية التوافقية إلى استعمالات أخرى تخلط الديمقراطية كمفهوم بالحرية والقوة والسلطة والحق والسيادة والاستقلال، ويجد الباحث الذي يعمل على تصفية تلك المصطلحات وتفصيلها وتنشيفها تحت الشمس أسير خلط الدين بالسياسة كمفصل أساسي ضروري للحفاظ على السلطة عبر إيقاظ العصبيات الدفينة وتسخيرها لأغراض دنيوية لا تمت بصلات كبرى لا بالدين ولا المذاهب ولا بالسلطات الإلهية، هذا خلط يجوف الديمقراطية بما يعقد فهم السياسة والأحداث السياسية، بما يجعل كيانات الطوائف وحياتها أي الاستعمال السياسي للدين مرهون للتشوه الدائم.‏

قد ترتفع مخاطر الديمقراطية الغربية (المستوردة) عندما تخلع ثيابها الحقيقية فتتلبس ثياب القوة وقهر الشعوب والأديان الأخرى، وتبدو نقيضاً للروح السمحة والمتسامحة، وتدفع ببعض رجال الدين إلى التعصب والاصطفاف، كنت أرغب، في هذا المجال، مباشرة مقالي بالنداء الذي رفعته الأصولية في انتقاد حركة حماس.‏

(إسرائيل تقصفكم في صدوركم، وخناجر الداخل تطعنكم في ظهوركم... وتنازلتم فارتضيتم الديمقراطية بدلاً من الشريعة، ثم ارتضيتم الحكومة بدلاً من الديمقراطية..)، والقصد هنا الديمقراطية (المستوردة) من الخارج، أو المفروضة من الخارج لتلبس المسلمين القبعة الغربية بدلاً من الكوفية القادمة من الصحراء، أرأيتم؟ متى كانت الشريعة تتناقض مع الديمقراطية؟ وكيف إلى التوفيق بينهما عندما تتأقلم «نخب وسياسيون» وتتعايش مع الديمقراطيات الزاحفة إلى بلاد الإسلام؟ فليحصد الغرب ما جنت يداه!.‏

لنقل ببساطة: إن الطائفية هي المحصلة غير الشرعية لانفصال الدين الطبيعي عن الدولة، ولو كان لبنان، مثلاً، دولة دينية، بالمغزى التقليدي للمفهوم، لفلشت الطائفة/الأمة ثوبها الديني فوق الوطن، ولكان ممكناً نظرياً لا عملياً، حل أكثر من معضلة، ولا بأس من تجليس الفهم اللبناني للديمقراطية عبر عصر التاريخ الديمقراطي في سطور من اليونان.‏

لو غسلنا اسبارطة القديمة لوجدنا حضارة ناصعة وصلت ذروتها بين 1500-1650 ق.م. قبل أن تنهار في العام 1450 ق.م. حيث عرف اليونانيون قروناً أربعة من الظلمات، وأصبحت بلادهم مرتعاً لمجموعة من المدن المتناحرة التي جبلت بالصراعات الدموية والحروب قبل أن تخرج مجدداً إلى السياسة Politike باليونانية، ومعناها إدارة شؤون الناس وأعمالهم، واشتق المصطلح من اسم المدينة Polis لتعمم فكرة الـ Politique في اللغات والتجارب الغربية، ومنه جاءت كلمة البوليس المستعملة في مدن العالم إشارة إلى الشرطة المظهر العملي لمعنى السلطة.‏

لقد غرقت بلاد اليونان في تاريخها الملكي Monarchie الطويل، ومنها الملكية المطلقة والملكية الدستورية، والـ Mono تعني الواحد والـ Archie تعني السلطة، ثم توشح التاريخ بظاهرة تنحية الملوك عن سلطاتهم العسكرية والسياسية مع الاحتفاظ بدورهم الديني لتؤول السلطة إلى مالكي الأراضي والمتمولين الذين فرضوا على المدن نوعاً من الأنظمة الأوليغارشية Oligarchiqe والـ Oligoi تعني العدد القليل والـ Archia تعني السلطة، ومعناها ممارسة السلطة من قبل عدد محدود من الأفراد والعائلات الميسورة، وعدم إشراك الآخرين بها.‏

هكذا شهدت اسبارطة مجلساً، قوامه ثلاثون يونانياً ينتخبون مدى الحياة من بين المواطنين الذين بلغوا الستين لإدارة الحكم، الأمر الذي استتبع أزمات كبرى وحروباً ضد طبقات رفضت تقاسم السلطة، وكان المعبر الأساسي في خلخلة السلطة وشيوع الجدلية، وهو الذي سهل من تفكيك القوى عن طريق التماس الحوارية، فالشكل الديمقراطي الذي شاع في مدن اليونان في القرن السادس ق.م. والقائم على مبدأي الحرية والمساواة والاعتراف بالآخر، وغدت أثينا مهد المؤسسات الديمقراطية والتي عرفت بالـ Ecclesia وهي الكلمة التي منها اشتقت كلمة Eglise أي الكنيسة فيما بعد.‏

كانت تلك الديمقراطية محدودة جداً، كونها كانت مرتكزة إلى فنون الإقناع، حيث الكلام فن السياسة في المدن اليونانية القديمة.‏

وكي نخرج من هذه المقالة المقتضبة من المتاهة والمألوف في تناول النصوص لمعضلات مثل الديمقراطية والطائفية، نستل من العب السقراطي هذا النص الذي يحكم الربط بين الديمقراطية وفن الكلام.‏

(لقد أمسكت مدينتنا بزمام شرف فنون الكلام، هذا الفن الذي يرغب الجميع في امتلاكه في الوقت الذي يحسدون فيه أولئك القادرين على قوله وممارسته، أولئك الذين تربوا منذ ولادتهم الأولى متمرسين بالديمقراطية لا بالشجاعة ولا بالثراء أو الأعمال الخيرة التي نعرفها ونألفها، وإنما بالكلام الوحيد الديمقراطي في القول والممارسة الذي يرفه منزلتهم لدينا، الكلام هو حجر الزاوية الأكيد في فهم الديمقراطية وكشف تربية كل منا، والذين يتفننون فيه هم أصحاب سلطة واقتدار، ليس في مدنهم وحسب، وإنما لدى الرجال كلهم حيث هم أصحاب شرف وحظوة وسلطان).‏

يكفي هذا التقريظ لسقراط لنفهم مدى الأهمية التي يتخذها الكلام كأداة للحوار والمنطق وممارسة الديمقراطية التي هي تربية وفن ورقي، وكلها كانت في أساس الفلسفة التي سبقت السياسة والأديان والطوائف بقرون، ولندرك السياسة التي أصبحت بهذا المعنى عيباً في بلد مثل بلدنا لبنان، يفترض أن يعاين جوهرة اسبارطة البذرة الأولى للديمقراطية في العالم.‏

وإذا كانت السياسة قد اتخذت ولادتها من إدارة الشؤون المدنية، فإنها في مجملها جاءت مطبوعة بمركزية صارمة للسلطات اتخذت تسميات متعددة باللغة اليونانية القديمة، وهي ما زالت مستمرة ومستعملة في اللغات اللاتينية، وآخرها الاستعمال الأميركي والأوروبي الذي جاب القارات الأربع عن طريق العولمة والقوة، وقرع أبواب الشرق الأوسط بالنار وتذكية المذهبية وزرع الشروخ الطائفية.‏

تلك هي المفارقة بين الديمقراطية والديمقراطيات الجديدة، ولربما بين بيروت وأثينا.‏

> أستاذ الإعلام السياسي في الجامعة drnassim@hotmail.com‏

nassim.khoury@gmail.com‏

">اللبنانية‏

drnassim@hotmail.com‏

nassim.khoury@gmail.com‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية