تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


من ذكرياتي مع الشاعر وصفي قرنفلي /2/ .. لـــــولا ثــــــلاث هـــــــنَّ مـــــــن عيـشـــــــة الــفـــــــــــــتى..

ثقافة
الإثنين 26-1-2009م
طافت في مخيلتي هذه الصور وغيرها من سلسلة الصور البيضاء والسوداء في حياة هذا الشاعر الفنان وقلت في نفسي: - كيف يستطيع إنسان كان يدمن معايشة الناس يومياً

أن ينقطع عن الناس فلا يراهم إلا لماماً من خلال زياراتهم العابرة له؟.. وكيف يستطيع إنسان كان يدمن معايشة الطبيعة دائماً أن ينقطع عن مرآها فلا يتملّى منحها الإلهية إلا من خلال شجرة أكاسيا وحيدة تواجه نافذة غرفته، بعد أن كانت هذه الطبيعة كل حياته ومرتع عمله ومثار صبواته واستغراقاته الفكرية والروحية؟..وكيف يستطيع إنسان أن ينقطع عن المشاركة في بناء المجتمع العربي التقدمي الاشتراكي الذي كان يحلم بتحقيقه بعد أن كانت هذه المشاركة تشكل محور همومه وطموحه ونضاله وخبزه اليومي؟ ولكي أنتشل نفسي من بئر تصوراتي العميق، اقتربت من سرير الشاعر الصامت وسألته كما هي العادة عن صحته فأجاب بتفاؤل: - هل أخبرتك..هناك دواء جديد أتعاطاه..أرسل لي من أمريكا خصيصاً وهو مجرّب ويشفي حالة مثل حالتي..وأردف بفرح طفولي: ولن تمر شهور حتى أعود كما كنت..أخرج وأمشي وأطالع..وألقى الحياة وأعيشها..وأرتدّ إلى أصدقائي ونفسي..كان يقول هذه الكلمات بثقة وأمل كأنه يتحدى مرضه المزمن وواقعه المؤلم ويخلق من صميم مأساته لحن غبطة وسعادة ويفتّق من ظلام نهاراته ولياليه الطوال المتشابهة المتآكلة ضياء وابتساماً، وكنت من جانبي أتساءل: - هل يمكن لدواء مهما كان فعّالاً ومؤثراً أن يشفي مريضاً في الستين من عمره أقعده الشلل الرعاش الكامل في الفراش منذ سنوات وأفقده الحركة والنطق الواضح؟!‏

كان يرافقني في زيارتي هذه المرّة صديقي الشاعر الشاب - آنذاك - (أحمد دحبور) وكان قد شارك في مهرجان المربد الشعري لذاك العام وأراد أحمد أن يُسلي وصفي فحكى له عن المهرجان قائلاً: بعد أن أنهيتُ إلقاء قصيدتي ونزلت عن المنصة سألني (الجواهري): - من أين أنت؟..قلت: - فلسطيني مقيم في حمص..قال الجواهري بحماسة: - من بلد وصفي قرنفلي أنت..إنه شاعر كبير..سلّم لي عليه..(وانفجر وصفي لدى سماعه هذه الكلمات بعاصفة مُرَّة قوية من البكاء والإجهاش لم تكن تنفع معها تهدئتنا له حتى بللت الدموع خديه دون أن يقوى على مسحها).‏

عندما صمت قلت له: - ياصديقي وصفي: نحن أتينا نعودك ونعايدك..قال بحسرة: - الماضي يبكيني..الندم..(فقلت أهملت مرضي في بدايته)..الذكريات..الشعر..!‏

وتابع أحمد روايته قائلاً: - واقترب مني عمر أبو ريشة وقال: - وأنا أيضاً سلّم لي عليه بالرغم مما كان بيننا من خلاف..( يشير أبو ريشة هنا إلى قصيدة لوصفي قرنفلي يُهاجمه فيها لسبب ما يعرفه كلاهما وعنوانها «موعد» ) وعاود وصفي ثانية البكاء متأثراً بتحية أبي ريشة إليه.‏

طوال ساعتين كنا نحن نجاذبه أطراف الحديث، نحاول أن نسرّي عنه..ننسيه المحنة التي يعيشها بأعصابه المنتهية. لم يكن هو قادراً على الكلام إلا بصعوبة فائقة.. كان الشلل قد قارب الوصول إلى حنجرته ولسانه وكان هذا أكثر مايعذبه ويضنيه ألا يستطيع القراءة والكتابة ولا حتى التمتمة. ومن طرفي كنتُ من أمهر أصدقائه الذين يتمكنون من ترجمة غمغماته اللسانية غير المفهومة وتحويلها إلى معانٍ مفهومة لمعاودة زياراتي له بشكل متلاحق فبين بيته وبيتي الكائن في حي صليبة العصياتي مسيرة خمس دقائق. لقد حفظت تذكاراته وحكاياته التي يرددها في كل زيارة بعد أن أصبح عالمه جدّ محدود: «غارسيا» - يقول - اسم أصله عربي..افتح البخلاء للجاحظ في الصفحة كذا تجد اسم غارسيا مُحرّفاً في الهامش الثاني واقرأ (غارس)..إنها اسم فاعل..صحيح أنني لم أدرس النحو والبلاغة وعلوم العروض لكنني أتحدّى الخطأ نفسه فيها..الخمرة والمرأة..لا..الخمرة والجنس هما دائي وكذلك الكبرياء..لولا الثلاث ماوصلت إلى هذه الحالة البائسة التي تراني عليها..هل ترى صديقي الشاعر (فلاناً) ويتحشرج صوته بالبكاء..مازارني منذ سنتين. هل نسيني..كان يوم عزّي صديقي (ويتنهّد) - (يقصد نصوح فاخوري).‏

لندن إذاعة مخططة جداً: الأغنية فيها والحديث والتعليق السياسي والموسيقا ونشرات الأخبار المعدّة بحذق بالغ وحتى سعلة المذيع أو المذيعة وحتى أخطاء الإلقاء العفوية أو المتقصّدة لغرض خبيث، وجميع البرامج بدءاً من برنامج «مايطلبه المستمعون» وحتى المقابلات وزاوية طبيب الأسرة..كلّها تسير نحو تحقيق هدف مرسوم..الإنكليز يحفرون قبر الشعوب بالإبرة و(يضحك).‏

خرجنا أنا والصديق أحمد من الزيارة مُنهكين مرضاً. بكينا معاً عليه أكثر مما بكى. أنا في الثالثة والثلاثين - كنت وقت استحضار هذه الذكريات - شعرت بعد مغادرتي لبيت وصفي أنني في الثمانين من العمر وأنّ الحياة سخرية لاتُطاق إذا كانت ستنتهي هذه النهاية الفجائعية. وأننا نحن البشر ضحاياها وذلك على الرغم من أنني أزور وصفي في مرضه منذ لازم الفراش بين الشهر والآخر أو الأسبوع وشقيقه لكنني لم أره على مثل هذا النمط من الانتهاء المؤسي والإحساس الأكيد بالموت والتعلّق الأسطوري بالحياة والبكاء الطفولي العجيب.‏

مشينا في الطريق ذاهلين حزينين..أخمد (أحمدُ) أحزانه في صمت قارس. وأنا أخمدت أحزاني بأن عدتُ إلى شريط ذكرياتي مع وصفي قرتفلي على مدى عشرة أعوام كأنها رفة الحلم وتهوية الخاطر وإطراقة الجفون. ثم..ثم افترقنا أنا وأحمد دون كلمة وداع..وقد خلّفت لي هذه الزيارة قصيدتي (البكاء على قارعة الطريق) المكتوبة بعد فترة وجيزة من حصول هذا اللقاء والمنشورة في ديواني الأول (مسافة للممكن مسافة للمستحيل) الصادر عام 1977.‏

وأذكر أن أصدقاء وصفي لم ينسوه في محنة مرضه، فعلى أيدي مبادرتهم وسعيهم وإخلاصهم لميثاق الصداقة احتفل (والاستناد هنا إلى ذاكرتي الموثقة بالوثائق) في يوم الثلاثاء الواقع في الخامس من آب 1969 بتقليد الشاعر وصفي قرنفلي وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى وقد قام وزير الثقافة آنذاك سهيل الغزي بتقليد هذا الوسام للشاعر الممدد في سرير المرض وتسليمه البراءة الخاصة به في حفل إنساني كبير أقيم في دار الشاعر.‏

أما وصفي الذي كان الداء قد أعاقه عن الحركة والكلام بعد أن استشرى في أنحاء جسده وتغلغل إلى صميم روحه ومشاعره فإنّ البسمة لم تفارق وجهه طوال مدة الاحتفال - الذي صوره التلفزيون وبثّه في نشرة الأخبار الرئيسية المسائية - وفي أثناء إلقاء الكلمات على ماأذكر.‏

لقد كانت هذه البسمة أبلغ من أي حديث فقد ضمنَّها كان مايريد أن يعبّر عنه من آيات الشكر والعرفان ومن معاني السعادة والرضى الداخلي العميق وخاصة عندما قال الوزير في خطبة التقليد: «لم يكن وصفي يمسح الأرض بل كان يمسح العرق عن جباه الفلاحين». أما الحضور فكانوا سعداء كذلك إذ لأول مرة في هذا القطر يكرم الأديب في حياته.‏

أما وصفي فما شاهدته مرة سعيداً راضياً مغتبطاً مثل هذه المرة حتى في أيام صحته يوم لم يكن للمرض مُستراح في جسده وإقامة في أعضائه. إن هذا الرجل الذي كان يرفض باستمرار إلا أن يكون صادقاً مع ذاته، قد برهن في احتفال تقليده لوسام الاستحقاق أنه قد بلغ في صدقه مع نفسه أعلى المراحل لأنه يرى بعينيه أن أدبه لم يضع هباء وشعره لم يكن قطرة في بحر وقصائده لم تلعب بها الرياح بل كان ولايزال هناك من يقدّر الشعر والإنسان المدافع عن قضية شريفة، وهذا ماجعل البسمة العريضة تضحك في وجهه والفرحة تزهر في عينيه ورفيف دمعة يلمع على أهدابه، وشريطاً طويلاً من ذكريات بيض وسود يترى أمام مخيلته.‏

إن ذكرياتي مع هذا الشاعر معين ثر ولايمكن لمن يتذكر مثلي أن يغض الطرف عن ذكرى ويفتح على أخرى فكلها ذكريات غوالٍ وذات دلالات، ومنها أنني مازرته مرة في بيته، وفي أثناء عافيته وفي بداية مرضه واستفحاله إلا شاهدت بين يديه القرآن الكريم يقرأ فيه ويتمعن آياته أو رأيته موضوعاً على منضدة بجانب سريره وقد وضع داخله علامة من ورقة أو ريشة طائر، طاووس على الأغلب، للإشارة إلى المكان الذي وصل إليه في القراءة، ولما سألته ذات مساء عن سبب ذلك وهو المسيحي قال: «نبع اللغة العربية الشعر الجاهلي والقرآن ثم الصحيح من حديث النبي العربي محمد ثم نهج البلاغة لعلي، ثم شعر المتنبي».‏

وأذكر أنه كان يألم كل الألم ويتأثر صميم التأثر عندما يتذكر ماكتبه عنه صديقه وتلميذه عبد الباسط الصوفي في رسائله وأوراقه الشخصية المنشورة في (آثاره) بما فيه من مطاعن عليه ومغالطات بحقه تتعلق بالفارق بين مزاجه الشخصي وانتمائه العقائدي ونتاجه الشعري ولايخفي ذلك أمامي وفي لحظات مرارة كان يقول لي: عبد الباسط نال أديباً في حياته وبعد مماته أكثر مما يستحق، كما أذكر أنه كان ينزعج إذا كُتب على قصيدة له أو في الصحافة عنه (القرنفلي) بأل التعريف، وكان يقول لي: أنا أكبر من (أل) التعريف، إنني أسعها ولاتسعني.‏

ومرة سألته بعد عودته من موسكو للاستشفاء عام 1965 متى بدأت نظم الشعر ونشره فقال لي: كان ذلك عام 1927. أي كان له من العمر آنذاك ست عشرة سنة. ولم يكن وصفي ضد الشعر الحديث وقد نظم على نظامه لكنه فشل..كان مع الشعر الجميل الرائع على أي شكل كان وأذكر أن الصديقين أحمد دحبور وعلي كنعان ألقيا أمامه، بناء على طلبه، وبوجودي شيئاً من قصائدهما الحديثة فاستجاد منهما ذلك وأعجب بشاعريتهما.‏

في الساعة السادسة - أذكر ذلك لا أنساه - من صباح اليوم الثاني عشر من الشهر الثاني عشر لعام 1972 رنَّ جرس الهاتف في منزلي - وكنت مديراً للمركز الثقافي العربي بحمص وأمين سرّ فرع اتحاد الكتاب العرب بحمص - وكان صوت الصديق المرحوم عبد البر عيون السود يأتيني بهدوء وتأثر واقتضاب: (ممدوح.مات وصفي منذ نصف ساعة..بكِّر في النزول فأمامنا عمل كبير) وبعد ساعة كنًّا في بيت وصفي ومعنا عدد من الأدباء منهم مراد السباعي رحمه الله.‏

الشمس ساطعة تنير باحة الدار العربية الطراز بأكملها..أشجار البرتقال والليمون والأكاسيا والإكدنيا والنخيل والرمان محنية الغصون، مثقلة بثمارها..الشبابيك الخشبية الخضراء اللون مغسولة بمطر الليل..ثلاث حمامات وديعات أخذن مكانهن الدافئ الأمين في ثلاث نوافذ صغيرة عالية من غرفة الشاعر الميت ورحنَ يرسلن نحيبهن المعتاد أو تسبيحهن الخاشع في حضرة الطبيعة مذكرات من يسمعهن بالمعري في قوله من داليته المشهورة (أبكت تلكم الحمامة أم غنّت على فرع غصنها الميّاد).‏

أما نسوة المنزل: أخوات الشاعر وقريباته وأقرباؤه وجيرانه ومعارفه فكانوا جميعاً في مأتم حزين حقاً.‏

دخلنا غرفة الاستقبال الواسعة الرطبة شبه المهجورة، وساد بيننا صمت مسكون بدمع يأبى أن يتفجّر ويأخذ مسيله على الخدود. في مثل هذه المواقف لايجدي سوى السكوت..إنه أبلغ من جميع لغات العالم وأفصحها طرّاً. إنّ الموت لايعامل إلا بالموت، وقد كنّا في صمتنا الدامع موتى نتنفس بإعياء ومجانية.‏

انتقلنا أنا وعبد البر بناء على رغبتنا إلى غرفة الشاعر المسجّى على سريرٍ من خشب الجوز القديم ودخلناها بتؤدة وخشوع وقدسية ووحشة مخافة أن نوقظ النائم نومته الأبدية وداخلني شيء مثل الصدمة أو المفاجأة أو الفزع، كانت تلك أول مرة في حياتي أرى ميتاً.‏

كان وجه وصفي شديد الموت، شديد العدميّة..كان منطفئاً كلياً، لم تترك فيه الحياة أي ومضة من ومضاتها أو علامة من علاماتها، هو الذي لم يقبض إلا منذ ساعتين غبرتا، وكان لونه يميل إلى أن يكون رمادياً أصفر، أو أصفر رمادياً، لكن مايشبه طيف ابتسامة وديعة حزينة مستسلمة قد تركت آثارها على شفتيه الرقيقتين المنفرجتين المتحفزتين للبدء بحديث يبدو أنه انقطع بغتة، أو وصية مااستطاع النطق بها فماتت معه أو بيت شعر طاف في خياله وهو يحشرج، فهل كانت هذه الابتسامة المطمئنة الراضية الخافتة هي آخر ماخلّفته الحياة للشاعر الراحل الذي وهب الحياة أحلى أنغامه وأرق عطاياه وأروع حب لوطنه وأمته، وهل تراه مات موتاً هادئاً بطيئاً بعيداً عن عذاب الغرغرة وآلام النزع؟!‏

تملّيتُ بالجسد الممدد أمامي طويلاً..وحدّقت فيه بعيني كثيراً أحاول أن أتبين مبتدأه من منتهاه، فقد كان تحت الشرشف السماوي اللون شبه ضائع، شبه مفقود لضآلته، لقد أذاب المرض الرهيب القاسي (الباركنسون) وصفي فلم يُبق منه إلا هيكلاً عظمياً أو شبحاً ناحلاً تردّدت فيه الأنفاس الشاعرة الخائرة صباح مساء لمدة ست سنوات هي رحلة الشاعر مع الألم القارض وملازمته لفراش الأوجاع المبرّحة والسكون البارد والجراح النفسية المتصببة دماً غير منظور، سيّالاً من مصل الروح وسلافة الحنين المستجدي إلى نعمة الحياة المعافاة، والندم العاثر على إهمال الصحة ومداواتها ثم الانكفاء النفسي الصامت والاستسلام القدري الطائع إلى مصير لا مهرب منه ولا نجاة ولا تنفع في درئه المعجزات.‏

واستفقتُ على نفسي والدمع يملأ عيني، يغرورق بهما ويغمرهما..وطال وقوفنا خاشعين كئيبين في حضرة الموت، وطالت النجوى ولم يزهر الصمت، ثم عانق كفي كفّ صديقي عبد البر وخرجنا من غرفة الشاعر المغادر وصفي قرنفلي دون أن نسمعه يودعنا كما اعتاد قائلاً:‏

- مع السلامة..لاتُطوّلا الغيبة..أنا وحيد..‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية