|
الصفحة الاولى وفي التطبيق تحول مجلس الامن الى مطبخ لاخراج القرار الاميركي وترويجه على أساس انه قرار «المجتمع الدولي» (العبارة السحرية التي راج استعمالها على لسان الولايات المتحدة الاميركية بشكل واسع) وأطلقت مقولة «الشرعية الدولية» المتقدمة على الاستقلال الوطني والتي تبيح التدخل في الشؤون الداخلية للدول مع التجاوز الفظ لسيادتها الوطنية، حتى ان كوفي أنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة نصب نفسه فيلسوفا منظراً لهذه النظرية التي تنافض في عمقها وجوهرها ميثاق الأمم المتحدة الذي يحترم السيادة الوطنية ويحرم التدخل في شؤون الدول الداخلية الا في حال واحدة هي قيام الدولة المعنية بما يؤدي للاضرار بالامن والسلام الدوليين ويعرض استقرار العالم للخطر، وفي هذه الحال فقط يكون «للمجتمع الدولي» ان يتدخل للدفاع عن أمنه، سواء كان هذا الدفاع باسلوب الحرب الردعية اوالحرب الدفاعية المباشرة. لكن أميركا وفي العقدين الأخيرين لم تحترم هذه القواعد ولجأت الى قوتها وقوة الحلف الاطلسي من اجل السيطرة وتدمير الخصوم وليس من اجل الامن والحرية للعالم، واذا سلمنا جدلا بان حرب «تحرير الكويت» من صدام حسين وقواته (رغم ان ميركا هي التي شجعته ودفعته الى احتلالها) ان هذه الحرب يمكن ان تطابق اوتقترب من مفاهيم الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة التي تجيز استثنائياً مثل هذا التدخل، فان فعل اميركا في افغانستان والعراق ولبنان، لا يمت بصلة الى هذا الميثاق لا بل يعتبر انتهاكاً فظا له بهدف ارساء مقولات ونظريات جديدة في العلاقات الدولية تتمثل بنظرية «التدخل الدولي الانساني» والتي تسقط حدود الدول وسيادتها وتنتقل في المشهد الدولي من مفهوم «مشهد الدول» ومجتمع الدول «الى مشهد الافراد والجماعات في دول و«مجتمع دولي» يتقدم على الكيان السياسي الوطني والاقليمي لاي دولة. وكانت اميركا بحاجة لارساء نظامها العالمي ونظرياتها الجديدة، بحاجة الى اخضاع كل من يرفض ارادتها، والقوة هي السبيل للاخضاع. وعندما نتحدث عن القوة فاننا لا نحصر الامر بالقوة العسكرية فحسب بل وفيها ايضا كل مصادر القوة من مال واقتصاد واعلام وسياسة ودبلوماسية. واميركا لم توفر مصدراً من تلك المصادر الا ولجأت اليه فحاصرت، وعاقبت، وشيطنت، وشوهت، وسفهت اعداءها الى الحد الذي جعلتهم فيه بنظر البسطاء السطحيين أشرار العالم (محور الشر) وبانهم يعملون على تدمير هذا اوذاك وان على «المجتمع الدولي» ان ينهض ليتخلص من شرهم وضررهم قبل فوات الاوان. بهذا المنطق راحت اميركا تطارد ايران وسورية والقوى اللبنانية والفلسطينية المقاومة لاسرائيل والمطالبة بحقوقها الوطنية والقومية. وحاولت ان تفرض العزلة (السياسية والاقتصادية والمالية) على مكونات المحور المقاوم للعدوان الغربي الصهيوني على المنطقة والمتشكل ممن ذكرنا، ونجحت في بعض مسعاها في تحشيد دول عربية وإسلامية –للأسف- ليكونوا رأس حربة في حربها ضد هذا المحور. لكن اميركا فوجئت في حربها المفتوحة تلك بامرين اساسيين: الاول مناعة وصلابة محور المقاومة ورفضه الخضوع والاستجابة للضغط الاميركي المتعدد المصادر والانواع، والثاني قدرة المقاومة على الانتصار في الميدان ثم امتلاك المحور هذا طاقات عسكرية دفاعية مكنته من امتلاك القوة الردعية الحمائية التي تمنع العدومن اللجوء الى القوة العسكرية في الميدان، وهوالمشهد الذي ثبت خلال السنوات الخمس الاخيرة وكانت حرب إسرائيل على لبنان بقرار اميركي هي التجربة الاميركية الاخيرة التي افهمت اميركا بانها باتت في دائرة عجز القوة وان عليها ان تتوقف عن اللجوء الى الحروب وفقا لاستراتيجية القوة الصلبة ضد خصومها. وبالفعل هذا ما حصل وكرسته اميركا في المفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف الاطلسي، لكنها لم ترتدع عن العدوان على الشعوب والدول ولجأت الى استراتيجية القوة الناعمة الذكية التي تبدو سورية اليوم اكبر هدف اتخذه العدوان الاميركي له والذي رمت اميركا عبره لتعويض اخفاقاتها السابقة. كانت في سورية المنازلة الكبرى بين حق الشعوب في قرارها وسيادتها من جهة والعدوان عليها بقيادة اميركية صهيونية من جهة اخرى، في حرب كونية كما وصفناها منذ انطلاقتها، لجأت فيها اميركا الى كل شيء متاح لها وافظعه كان الاعلام التحريضي الملفق والارهاب الاجرامي المدمر، لكن سورية شعبا وقيادة وقوات مسلحة صمدت وكسرت العدوان، وهي وان لم تستعد امنها واستقرارها الكامل حتى الان وبعد 18 شهراً على انطلاق العدوان، فهي تمكنت من تأكيد عقم العدوان عليها وعجزه عن تحقيق اهدافه، ثم انها بصمودها انتجت بيئة دولية جديدة فتحت الطريق امام تحرك العالم من اجل استعادة التوازن في مجلس الامن، وكان الفيتوالروسي – الصيني المزدوج والمتكرر بدءا من أيلول الـ 2011، رسالة قاطعة تؤكد كسر الضلع الثاني من اضلاع المنظومة العدوانية لاقامة نظام الاستئثار الاميركي بحكم العالم، بعد ان كانت المقاومة في لبنان كسرت الضلع الاول ضلع القوة. ومع هذه الخسائر الاستراتيجية الكبرى، رأت اميركا ان عليها الاحتفاظ بنظرية التدخل الدولي لاعادة تفعليها لاحقاً، وبعد ان اوصد مجلس الامن وجهها واقفلت الثكنات على جيوشها طرقت باب الجمعية العامة للأمم المتحدة مع علمها بان قرارات هذه الجمعية ليست الزامية وليس لها اي آلية تنفيذية، لكنها عولت على ابقاء النظرية حية وهي الضلع الثالث المتبقي من آلتها العدوانية على الشعوب. وحشدت 133 دولة من اجل ذلك بعد ان كانت قد استبقت الحشد باملاءات على الجامعة التي كان اسمها عربية قبل ان تعلق عضوية سورية فيها ومنظمة التعاون الاسلامي التي انقلبت الى غير اهداف الاسلام عندما انصاعت للاوامر الاميركية وخاصمت سورية أيضاً. في ظل هذا الواقع جاءت قمة حركة عدم الانحياز في طهران، وهنا كان التجاذب الاكبر، بين تيار تحرري يريد ان يعيد التوزان الى العلاقات الدولية، وتيار استعماري يستبح كل شيء في سبيل خدمة الغرب والصهيونية، وانفض غبار القمة عن مشهد يؤكد خسارة اميركا استراتيجيا بكسر الضلع الثالث من آلة تنفيذ تلك السياسة، وسقطت نظرية التدخل الدولي الاميركي بتوقيع من 120 دولة، منها 30 دولة تابعة ومستسلمة للارادة الاميركية. اننا نرى في وثيقة طهران لقمة عدم الانحياز المسمار الاخير في نعش النظام العالمي وفقا للطموح الاميركي، فبعد ان كسر في لبنان الضلع الاول ببنادق المقاومة وكسر على اعتاب دمشق الضلع الثاني بصمود سورية وولد جنين النظام العالمي الجديد ها هو الضلع الثالث يكسر تحت قبة قصر المؤتمرات في طهران كسر حيث قالت قمة طهران: وداعا لعهد انتهاك السيادة الوطنية تحت تسميات الشرعية الدولية. لقد كان معبرا ذاك المشهد الذي ظهر فيه مهندس العدوان الاميركي ومديره في الشرق الاوسط – فيلتمان- وهوفي حضرة الامام الخامنئي يفرك يديه مذهولاً لما يسمع من كلام قوة وثقة بالنفس، كلام اجبره على القول لادارته الاميركية (رغم انه اليوم موظف أممي): «ايران ومحورها اقوياء فلا تجربوهم». وكان فظيعا ان يلحس من كان في جامعة الدول العربية اومنظمة التعاون الاسلامي تواقيعهم ضد سورية رغم بعض خطابات النشاز التي لم يكن لها من مفاعيل الا تقزيم اصحابها، وان تضطر تلك الدول ان تبلع السنتها وهي تشاهد ممثل سورية في المؤتمر عالي الجبين ينسحب من القاعة ويعود اليها حين يشاء، ويقول في انسحابه، انا الذي انسحب من مجلس العملاء واعود الى مجلس الشرفاء، وليس للتابعين ان يحددوا موقع سورية وهي صاحبة القرار المستقل، وكان في ذلك خير رد على عدوان دبلوماسي استهدف سورية طيلة العامين الماضيين. نجحت ايران في قمة عدم الانحياز ونجحت القمة في طهران في اعادة التوازن والاعتبار الى العلاقات الدولية السليمة خلافا لما ارادته اميركا كما انها نجحت في هدم كل ما حاكه الغرب ضدها طيلة ثلاثة عقود ونيف وظهرت دولة حضارية عصرية يمكن ان تتخذ نموذجا يحتذى لكل طالب عز وكرامة، ونجحت سورية في قمة عدم الانحياز حيث جبت النتائج كل ما سبق من عدوان عليها أو كان يحضر ضدها من مواقف، ولدت حركة عدم الانحياز ولادة ثانية واعدة وتبقى المتابعة . * أستاذ جامعي وباحث استراتيجي |
|