تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مصر : بين قيادة الدولة وإدارة السلطة

إضاءات
الإثنين 3-9-2012
د.خلف علي المفتاح

ثمة دول تشكلت تاريخياً عبر عملية تفاعل حضاري وتناغم مجتمعي وانسجام طبيعي بين مكوناتها، استطاعت من خلال ذلك ان تقدم للبشرية حالات ابداعية، وتساهم بشكل واضح في تطوير مسيرة شعوب العالم نحومسارات جديدة انعكست على الجنس البشري في أكثر بقاع العالم،

وأكثر من ذلك لعبت دوراً محورياً وحاسماً في الصراعات التي شهدتها البشرية، إعمالا لنزعة السيطرة والهيمنة والتوسع، التي لم تغادر أفكار الساعين إليها، وهي الحالة التي ربما لم تستثن أية أمة او امبراطورية تشكلت منذ فجر التاريخ وحتى الآن من شرورها.‏

هذا النموذج من الدول بحجمها وأهميتها ووزنها لا يمكنها القيام بأدوارها التاريخية تلك في ظل صراعات دولية وبحث عن مناطق نفوذ ان لم تتوفر لها قيادات وازنة سياسياً تمتلك عقلاً استراتيجياً وكاريزما سياسية وقدرة على لعب دور مميز على كافة الصعد الاقليمية والدولية يعكس ثقل وزن وأهمية تلك الدول، ولعل المثال الحي على ذلك هو دولة بحجم مصر واهميتها وثقلها والدور المأمول منها، فمصر التي كانت في مفاصل هامة من التاريخ اللاعب الأبرز في المنطقة من خلال ما تمتلكه من امكانات وموقع وهوية سياسية، وهو ما ارتبط بحجم القيادات التي تعاقبت عليها وقدرتها على استثمار ذلك، ولعل المثال الحي على ذلك قيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، مصر هذه الرائدة على الصعيدين العربي والدولي انكفأ دورها المحوري بعد فترة ليست بالقصيرة من رحيل عبد الناصر ورحيل سياساته، حيث تكبلت بمعاهدة كامب ديفيد، وانكفأ دورها على صعيد القضية الفلسطينية والصراعات التي شهدتها المنطقة، وتحولت الى حالة من حالات ضعف الفاعلية السياسية وغياب الدور المحوري، وهو ما انعكس ليس على مصر وحدها، وإنما على الدول العربية ودول المركز بشكل خاص لمصلحة دور الأطراف حيث عملت تلك الدول على ملء الفراغ السياسي الذي حدث، وهو ما كان له انعكاساته على المنطقة بشكل كامل ولمصلحة الكيان الصهيوني وبعض دول الاقليم واستطرادا لمصلحة قوى الهيمنة .‏

وبعد الذي جرى في مصر، وسقوط النظام السابق بهويته السياسية المعروفة، جرى الحديث عن تحول في السياسة المصرية، وراهن البعض على ذلك وكانت ساحة الاختبار قدرة القيادة المصرية الجديدة على فك اسار مصر من قيود اتفاقية كامب ديفيد، وما تشكله انتقاص للسيادة المصرية، واتخاذ مواقف سياسية من القضايا الساخنة في المنطقة، ومن أهمها الازمة في سورية بعيداً عن المؤثرات الخارجية، بحيث يتاح لمصر لعب دور إيجابي في المساعدة في الحل وهو ما يمكن تحقيقه من خلال اتخاذ موقف متوازن وعلى مسافة واحدة من كل الاطراف، وهذا يعني بالتحليل السياسي تحرر الإرادة السياسية المصرية من كل أشكال التأثير الخارجي والدوران في فلك الاستراتيجيات الامريكية.‏

والواضح حتى الآن أن موقفاً سياسياً مصرياً ايجابياً من هاتين المسألتين الهامتين لم يتخذ، وهذا يعني مبدئيا استمرار السياق العام للسياسة المصرية الخارجية في هذا الاتجاه وان التغير الذي حدث في مصر، على الاقل من الناحية السياسة، هو تغير الشكل وبقاء الروح على ماهي، وهذا ما ترغبه وتسعى اليه كل من الولايات المتحدة الامريكية واسرائيل .‏

وهنا يطرح السؤال الهام والجوهري فيما يتعلق بمصر الثقل والدور وهو أهمية التمييز بين قيادة مصر بحجمها وثقلها التاريخي وموقعها الجيوسياسي وإدارة السلطة فيها، فهذا شيء، وذلك شيء آخر، فإدارة السلطة عملية فنية تكنوقراطية ترتبط ببرامج اقتصادية واجتماعية وثقافية، ترسمها أحزاب وحكومات وغيرها، وتنفذ عبر آليات معروفة تتوقف على مهارة وكفاءة القائمين عليها، أما قيادة مصر الدولة والدور فهو باعتقادنا امر مختلف تماماً لأن العامل الخارجي والنظرة الاستراتيجية وتحقيق الأمن القومي والمصالح العليا لمصر و ما يستلزمه ذلك من حكمة وكفاءة سياسية وعقل استراتيجي منفتح متحرر من عقد العصاب الايديولوجي والسياسي هو الحاسم في ذلك .‏

ان القيادة المصرية الجديدة أمام تحد حقيقي، يتمثل في قدرتها على قراءة الواقع الجديد في المنطقة والعالم بحقائقه لا بصورته النمطية، فموازين القوى العالمية بدأت بالتحول لغير مصلحة اللاعبين التقليديين، ولعل التوجه شرقاً هو مؤشر إيجابي يشكل خطوة باتجاه إعادة التوازن للسياسة المصرية، ولكن ذلك لا يكفي، فلابد من حسم الكثير من القضايا وتجاوز الكثير من المعوقات والخطوط الحمر، التي كبلت بها الارادة السياسية المصرية طوال عدة عقود، والتي يبدو أنها مازالت حاضرة في حسابات بعض سياسييها.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية