|
ثقافة لذا فالشاعر الحديث لا يكتب -لأنه فنان- إلا عن تجربة ومعاناة وتحسس، يرفض أن يكون ببغاء أو نسخة مصورة مستعادة.. إنه يؤمن بما يسمى -المحرّض- إنه ابن داخله ابن مغاوره النفسية إنه ملتزم طوعاً وبشكل عفوي واع بهموم ذاته ووطنه وأمته وإنسانيته فهو يحيا أولاً ويكتب ثانياً من خلال انفعالاته ومساوراته وهكذا يكون الشاعر أيضاً. كانت الشاعرة -إميلي ديكنسون- تقول: «إذا بدأت أقرأ وشعرت أن قمة رأسي أو فروته قد انتزعت فإنني حينئذ أدرك أن ما أقرؤه شعر.. أهناك يا ترى طريقة أخرى؟». وهذا القول يقود إلى فكرة أخرى هي فكرة الخلق الفني للقصيدة الحديثة كيف تتكشل وكيف تتم؟ طبعاً كان بعض النقاد والشعراء يظنون أن كتابة الشعر لا تعدو انتظار عرائس الأحلام التي تجلب البساط السحري إلى برناسيس أو أن يذهب الشاعر في حالة غيبوبة بفعل مخدّر مغيب أو مشروب مسكر حيث ينتج اللاشعور أعمالاً فنية شبه مكتملة بفعل تأثير الشرود والذهول والغيبوبة وقد ثبت علمياً وتجريبياً خطأ هذا التفكير فبودلير الذي ذهب ضحية إدمانه المؤسف تعاطيه المخدرات عرّف -الإلهام- تعريفاً حاداً وفاصلاً حين وصفه بأنه -استمرار في العمل-. معنى هذا أن القصيدة الحديثة بنت التجربة الحاذقة على جميع المستويات من المعاناة إلى الثقافة إلى الولادة بنت الصميمية المدهشة والانفعال الحار. فالشاعر الحديث لا يجلس ليكتب قصيدته إلا إذا تقمصته تقمصاً واستغرقته استغراقاً واحترق بلهيب اختمارها احتراقاً، من هنا فالشاعر الحديث ليس شاعراً ملهماً ينتظر الحبيبة حتى تهجر فتدفق دموعه وينظمها قصائد والوطن حتى يحتل ويستباح فيدعو إلى تحريره بالمباكي إنه شاعر الاستشراف والتخطي والتجاوز والمبادرة، شاعر المغامرة المنذورة للولوج في أدغال الذات واكتشاف مجاهيلها ومواجهة الأشياء في عريها الوجودي والانغماز الحقيقي في لج الحياة والتواصل المستمر معها ولعبة الدواخل العميقة في سراديبها. والشاعر العربي الحديث ليس كسلفه القديم أو كشاعر ما يسمى بعصر النهضة شاعراً تجزيئياً مناسباتياً إنه يعيش نفسه والكون وما وراءهما في وحدة شمولية كلية، يحل فيهما جميعاً حلولاً كاملاً كما يحل الصوفي في وحدة الوجود والذات الإلهية فينتهي كل منهما في الآخر: الخالق الشاعر والمخلوق القصيدة بمعنى أنك إذا فتحت ديوان الشاعر الحديث. لا تقع على تلك التبويبات السقيمة التي كانت لشعر الأقدمين أو المستحدثين في القافية أو الغرض فليس في ديوان الشاعر الحديث باب للوصف وآخر للرثاء وثالث للغزل ورابع للفخر إلخ. إن القصيدة عند الشاعر الحديث يمكن أن تكون بكاءً وضحكاً وسخرية وطبيعة عجائبية في الوقت نفسه هدوءاً وصخباً وانخفاضاً وارتفاعاً في الآن ذاته شروقاً وغروباً وعطاء واستجداء وتماسكاً ولوعة في الحين إياه، لأنه يدرك أن الحياة وحدة لا تتجزأ وانعكاساً لكل هذه المعطيات دفعة واحدة وما هو -الشاعر الحديث- إن لم يكن شاعر الحياة؟ -2- صعبة ومنهكة كتابة القصيدة الحديثة وأصعب ما فيها بدايتها إنها هي التي تحدد مسار الشاعر وترسم بالتالي جسد المضمون وجسدانيته وروح الشكل أو التشكيل الفني فيه أو ما يسمى «الوحدة العضوية» في أبجديات النقد العربي المعاصر ولأن القصيدة الحديثة قصيدة تركيبية تنمو نمواً تصاعدياً مع وطأة معاناة التجربة الروحية المعاشة وشدة انفعال الوجدان الذاتي المضطرم لمبدعها ومع مؤثرات العالم المحيط (الجواني والبراني) وإشكالات الحياة المعاصرة وهموم الشاعر مجتمعة ورؤاه للطبيعة والكون والوجود والموجودات من حوله لذلك تبدأ ولادتها قبل مرحلة التخمر والنضج ضمن حالة من حالات التوتر الداخلي والهياج العصبي إنها لحظة اقتراب الرب كما يسميها الشاعر (تورجنيف) أو لحظة التنزيل الشعري كما أطلق عليها تسميتي الشخصية كشاعر يتحمل هموم هذه المسألة المأزومة ويقاسي من وطأة مخاض القصيدة المتوسمة أفكار غامضة مشوشة متناقضة يأخذ بعضها في رقاب بعض بروابط تربطها في أضمومة منصهرة بنار المكابدة والمعاناة أو تحفل وتحتشد بتناقضات حادة تفرقها وتباعدها عن بؤرة انطلاقها الأساسية في البدء ثم تتجه إلى نقطة الجاذبية في الساحة المغناطيسية.. عوالم مسهبة خضراء خيالية مائية أو صحارى جهنمية ملتهبة بأتون الفراغ ولهيب الموت ذكرى عابرة تقفز فجأة من قاع اللاشعور كالشرر الملون أو منظر حسي تقف عنده العين القلقة مشدوهة مرتجفة عواطف تتأجج كالجمر صور تتداعى كأنها رؤى الحلم أمطار تسقط غزيرة وحشية في سرادب النفس كلمات تهدر وتهوى كشلال من قواميس الإحساس المتفجر وتبحث لها عن سطر في بنية القصيدة، موضوعات لا يمكن القبض عليها أو حصرها لأنها ليست موحدة الأنساق فواصل ونقاط وإشارات استفهام وتعجب موظفة لشحن التعبير المعنوي بالتعبير الأسلوبي بهدف ترسيخ الفعالية التأثيرية وتعزيز الطاقة اللحظوية للإشراق لدى المتلقى هدوء يعقبه ثورة خطاب سافر في خطابيته الجامحة ينقلب إلى نجاوى ذاتية تشبة الأنين، صدام ثم تصالح براكين ثم سكون والشاعر في جماع هذه العملية الولادية يسترسل في ملء الصفحات ويسود بياضها بأنفاسه المتلاحقة فتطول القصيدة أحياناً تنمو نمواً معمارياً تصاعدياً يغني إشعاعات التشويق في إيماضاتها وأحياناً أخرى تنمو نمواً تراكمياً في مقاطع لاينمي اللاحق السابق فيها أو يأتي على حساب تقطع الدفق الشعري المتوتر خلال سيرورتها وينقله من حالة الانفعال النفسي الموار في تعبيره وتصويره إلى حالة الاسترسال اللفظي في التداعي المنفلت من رقابة الفن والتهميش الإضافي المخلخل لبنية النص ومعماريته فتخسر القصيدة بذلك أهم سمة من سمات حداثتها، ألا وهي التركيز والتكثيف والشحن الشعوري الدائم الحيوية والنفاذ وتنساح لجتها في أمواج من الاستطالات والترهلات والاستطرادات. على القصيدة أن تعتني بجسدانيتها في شكلانيتها ومظهرها مثل جوهرها وفحواها شأنها شأن عاشق متحضر ذاهب إلى ملاقاة محبوبته في موعد عاطفي، يحتفل بإيقاعات كينونته النفسية وأناقات روحه المغرمة وهو في طريقه إلى لقاء الحبيبة يرتدي أجمل ملابسه وأحبها إليه. -3- كلما سمعت أحدهم -من القراء العاديين في قراءتهم لغلاف الشعر الخارجي وليس في الغوص إلى أعماقه للوصول إلى لبه- يقول لي بعد قراءته ما يمكن أن يسمى قصيدة لي: أواه كم أنت غامض شعرت بأنني أقترب من حدود أن أكون شاعراً له ثقله النوعي الخاص في كتابته لنص إبداعي ينتمي حقيقة إلى الشعر تخفق فيه الروح بضوضاء من الإيحاءات تنفتح على فضاء الشرفات والنوافذ في انسياب ضبابها الأزرق الشفاف والانغمار في لجه السري المواج بالسحر الخلاب والجاذبية المغرية. قالت لي مرة قارئة من صديقاتي: قرأت قصيدة لك فلم أفهمك كم أنت بعيد عن الوضوح شعرت بسعادة غامرة مفرطة وأنا أسمع رأيها وبادرتها بالجواب فوراً: حسناً يا عزيزتي هذا ما أبغيه حقاً ..لو عرفت مقصدي منها لحزنت..! |
|