|
ثقافة
غير أن الفنان مؤقت؛ الذي اختار من الفنون التشكيلية النحت ليكون مجاله الإبداعي في المشهد التشكيلي السوري؛ هو من جيل الرواد لهذه المرحلة، فقد أمضى الرجل مخوّضاً في تجربة فنية اكتسبت ملامحها تعبيريتها الخاصة، والتي تمتدُّ اليوم لأكثر من نصفِ قرنٍ من السنين تنوّعت بين نصبٍ كبيرة شهدت له فيها مختلف ساحات سورية الفينيقية من حلب مروراً بالرستن ووصولاً لدمشق.
إضافة إلى شغله على المنحوتة الصغيرة والمتوسطة، وخلال ذلك العمل الطويل من النحت، فقد جرّب الرجل مختلف الخامات لتُشكّل حوامل، أو ليخلق منها تنويعات جمالياته، من الطين والحجر والبرونز، قبل أن يستقر إلى حدٍّ بعيد على الرخام الذي كان له معه حكاية آثرة من العلاقة الحميمة، قدّم من خلاله حلولاً تشكيلية كثيرة، وكان أيضاً، من السباقين الذين استخدموا الرخام الملوّن كالأبيض والأسود والأصفر والبني في تجربة اختارت على الدوام السير على الحواف بين التجريد والتشخيص، أحياناً تذهبُ بعيداً في هذا الميل، وطوراً تذهب البُعدَ ذاته صوب الميل الآخر، ومرةً ثالثة تُماهي بين الاتجاهين ليصير التجسيدُ تجريداً، ويصير التجريد يُلمس بالأصابع. خيارات ثلاثية الأقطاب الأمر الذي أكسب شغل عبد الرحمن مؤقت في هذه الخيارات والحلول التشكيلية بين منحوتة وعمارة نصبية، وبين تجاوره لحضارة سورية الفينيقية المُوغلة في دهور من التنويع الجمالي على هذه الأرض العتيقة، وبين اطلاعه على مختلف التجارب الغربية القديمة منها والمُعاصرة، وغيرها الكثير من «الثنائيات» الجمالية، كل ذلك أكسب تجربته ملامح كثيرة، لعلّ أبرزها؛ تماهي «ثنائيتين» الحرفية والصنعة العالية، والحساسية الفنية العالية أيضاً، وهذه الثنائية التي مكّنت هذا الفنان الذي بقي يشتغل بصمت، يُشبه صمت وتأمل النساك والرهبان، من أن يُقدم نتاجه المُفارق عن المحترف السوري، في مشهدٍ قلّ فيه - إلى حدٍّ كبير التنويع والمفارقة - وذلك بالهاجس التشكيلي الذي سكنه على مدى الأيام في إيجاد التوازن بين الكتلة والفراغ داخل المنحوتة والوصول الى الحلول التشكيلية التي تتوسط التعبير والتجريد، بحيث تنبض الكتلة بداخلها بالحياة كما كان يُردد دائماً، ويضيف: الأعمال التي أقدمها؛ هي صياغة لعالم ثلاثي الأقطاب: جمال العقل، وشفافية الروح، ودفء العاطفة وحيوية الحركة. خزان معرفة وعبد الرحمن مؤقت قبل أن نستطرد؛ من مواليد حلب عام 1946، درس الرسم والنحت في البداية دراسة حرة، وذلك لمدة عشر من السنين بين 1960 و 1970، لكنه اعتباراً من سنة 1960 بدأ بإقامة المعارض الفرديّة داخل سوريّة وخارجها وشارك أيضاً في المعارض العامة، وكان تخرج في دار المعلمين عام 1967 ومارس مهنة التعليم ردحاً من الزمن، كما قام بتدريس مادة النحت في مركز فتحي محمد للفنون التشكيليّة بحلب منذ العام 1973، وإلى أن ياتي العام 1976 فتفرع لممارسة النحت بشكلٍ كامل، وبين عامي 1980و1981 درس النحت العاري في أكاديميّة الفنون الجميلة بروما، وهو بكل ذلك سيُشكّل خزاناً معرفياً هائلاً، سيبقى يمتحُ منه إبداعاً ثراً من المشاعر الإنسانية التي حمّلها للصخور. تكثيف التجربة وربما معرضه الذي أقامه في صالة تجليات بدمشق سنة 2010، يأتي كتوقيع على مجمل هذه التجربة الغنية وتحولاتها، وتكاد تكون تكثيفاً لها، وخلالها يُمكن أن نقرأ مدارات هذه التجربة وانعطافاتها وكل ملامح الجمال فيها. فقد جاءت المدة الزمنية الطويلة بتجربة كانت أقرب إلى البحث، ومن هنا يفسر النقاد تطورها وثراءها في كل ظهورٍ جديد لها، وإن كان ثمة خصوصية أعطت لنتاج هذا الفنان ملامح تفرّد بها طول الوقت، سواء بالمادة الخام، أو بتوقيع ما، يظهر في كل أعماله النحتية التي يوزعها كنصب تذكارية، وبالمنحوتات التي يقدمها في المعارض التشكيلية.. فبعد سلسلة من الأعمال النحتية الكبيرة، تكللت بإقامة العديد من الأعمال النصبية التذكارية، وعمله النحتي في مطار حلب يبلغ ارتفاعه ثمانية أمتار، غير أنه في منحوتاته؛ ثمة سمة يكررها، وتأتي كتوقيع على معظمها، تجسدت في هذا الالتفاف الذي يصر عليه لينطق به جسد اللوحة، بهذا الحنو على نفسه بكامل القسوة، وكأنه يصر على هذا الرخام الصلد، والصلب لأن يقر بمخزونه من الحنان ليقدمه إلى متلقيه بإشارةٍ ما، هي لغة تُقيمها هذه الأعمال مع من ينظر إليها، أو العكس.. حنو الدوائر هذا الالتفاف، أو هذا التكور، الذي تشكله التفافة ما، فينتج دائرة، أو فتحة فراغية في داخل المنحوتة غالباً ما يكررها، وينوّع عليها، حتى تكاد هذه الدائرة أن تكون الحامل للعمل الفني، أو الصندوق الذي يضع فيه أسرار العمل النحتي وطاقته..! هذه الطاقة - الدائرة التي تأتي لحركة ما لرفة جناحين، أو نتيجة تكور أنثوي على نفسه، أو احتضان، أي أن هذه الدائرة التي يصر عليها، تحقق للعمل النحتي اللمسة الإنسانية التي كانت هاجسا مؤقتا في اشتغاله التشكيلي في كل منعطفات تجربته الفنية.. في أعماله النحتية هذه، ثمة انجدال يُقيمه عبد الرحمن مؤقت بين خامة المنحوتة التي يختارها دائماً الرخام، وبين تكثيف لحالة أنثوية، هذا الإنجدال الذي يظهر في أكثر من تشابك، أو تقاطع مع المرأة بقسوتها وحنانها وهشاشتها وما تدعيه من ضعف بذات الوقت، وبين الرخام القاسي والصارم، لكنه الهش واللين بين يدي خبير، وربما من هنا هذا التركيز في الشغل النحتي على أمرين: شيء من صرامة الهندسية في بعض حواف العمل النحتي، والذي يتجاور مع الالتفاف الحاني الذي أشرنا إليه سابقاً، وهو يتناول، أو يأخذ من كل هذه المسائل اختصاراتها، من هنا فمنحوتة عبد الرحمن مؤقت؛ تظهر على التخوم بين التجريد، والتجسيد، الأمر الذي يُشحن العمل النحتي بطاقة تعبيرية عالية، تبرز مقداراً كبيراً من الجمال، وهذا التعالق بين التجريد والتشخيص، وتحميل الحالات الإنسانية، التي هي تحديداً حالات أنثوية، كان أن خفف إلى حدٍّ كبير من صلابة المادة الخام - الرخام، ومن إخراجها من أن تكون مادة صماء لاروح فيها، وذلك إلى درجةٍ بعيدة، أي استطاع مؤقت أن يحمّل الرخام الكثير من التأويلات، والقراءات، رغم ما يوحي الأمر من مشقة في ذلك، لكن الحرفية العالية، والرخام الملون على وجه الخصوص، والإشارات الأنثوية، التي جاءت تلميحاً واختصاراً لجسد المرأة طوراً، ولحالات أنثوية، كتكور، وحركات الأجنحة، والدائرة التي قلما خلا عمل منها، كل ذلك خلّص المادة الخام من تلك الحالة «الصمية» والصنمية أن صحّ التعبير، ثم هذه النعومة المخادعة والملتبسة للرخام التي تغلف كمّاً كبيراً من القسوة، ومن الاشتغال على مقاطعتها، أو تقاطعها مع حالات المرأة من تناقضات غريبة لهذا الكائن، فكان أن قدّم حالات أقرب إلى الشعرية القائمة على الكثير من الفن.. عواطف الرخام أعمال نحتية مشحونة بالانفعال والعاطفة، لكنها أيضاً العاطفة المواربة التي لا تفصح عن نفسها تماماً، وأنما تأتي كأطياف وملامح، واختصارات، بحيث لا يغيب العامل الذهني عن العمل الفني في كل مرة.. فن يحاكي الجسد والروح معاً، يُساعده على ذلك إيقاعات من الحركة والثبات، وهذه من جملة ثنائيات تعلن عن نفسها في أعمال الفنان عبد الرحمن مؤقت، حركة وثبات على قدر كبير من الحياء، واللمسة الناعمة فيها الكثير من «الخجل» الفني، الذي لا يستعرض، وإنما يقدم نفسه بخفرٍ ما..! هذه الحركة التي تجلت بالاشتغال على جماليات الأجنحة حيناً وبالخطوط الملتفة حيناً آخر، وبالإفصاح المستتر على بعض من ملامح جسد المرأة، وفي الثبات الذي تجلى في الحالة الهندسية، وصرامة بعض القوالب التي أفضت إلى قساوة في تغييب الرأس والأيدي وغير ذلك. تجربة مؤقت اتخذت لنفسها اتجاهاً لتنوّع في المحترف التشكيلي السوري، في تقديم بيئات مختلفة، بعضها كانت حوامله أحجار البازلت، وأخرى حملتها أخشاب الزيتون، والتوت، وغير ذلك مما توفر من أشجار قريبة لروح الفنان ومشاعره، وأخرى اقتنعت بالرخام، واستطاعت ترويضه بما ملكته من حرفية عالية، والأخيرة التي استقرت عليها تجربة عبد الرحمن مؤقت، بعد اختبار الكثير من الخامات الأخرى.. |
|