تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


بين الذكرى والتذكّر..

ثقافة
الخميس 19-11-2009م
محمود شيخ عيسى

نظرتُ إلى الثقافة العربية وهي مقبلة لتشارك أترابها مكانها اللائق بين الثقافات التي انحنى الدهر على يديها ووجنتيها مقبلاً شاكراً لما تركته من بصمات مضيئة على مستوى الإنسانية جمعاء،

وتوقّعتُ أن أراها تخطر في أبهى الحلل، وكم كانت المفاجأة شديدة الوطء عندما بدتْ لي في ثيابها الرثة، وقد ظهرت عليها علائم الشيخوخة المبكّرة، فقلتُ متسائلاً أيمكن أن تكون هذه الثقافة تلك الفتاة التي سلبت الناس عقولهم بسحرها وأنوثتها أمداً طويلاً من الزمن؟‏

وربّما قفزت إلى ذهني فكرة تشبيه الثقافة العربية في وضعها الحالي بذلك النجم الذي قبل التخلّي عن ضوئه الباهر قانعاً بأنه مقدم عاجلاً أو آجلاً على خمود ليس من بعده اتقاد.‏

ولم أشأ تسليم نفسي لدوامة اليأس فلم اسأل عن مصير ذلك النجم، لأني لا أصدّق أنه يمكن أن يقدم على رمي نفسه في ثقب مظلم كبير يطويه في غياهب النسيان.‏

أحجمتُ عن هذا القول فقد وجدتُه منطوياً على موج زاخر من التشاؤم والقتامة، لكنّي لم أنكر أنّ له حبالاً متينة تجعله قادراً إذا شاء على الالتفاف حول عنقي وخنقي تدريجياً.‏

كلّ هذه الهواجس وجدتْ لها مراحاً ومغدىً في سريرتي عندما كنتُ أسرّح بصري متأملاً حال الواقع الثقافيّ العربيّ القائم اليوم ، الذي يزخر بكمّ كبير من الابتذال والتسطّح ، ونرى فيه مؤشرات قائمة فعلاً وليست من بنات الخيال على وصوله إلى حافة التردّي المقلق.‏

وكيف لا أرى هذه الحالة عندما أمرّ أمام المكتبات العامة والخاصة والمراكز الثقافيّة والمنتديات الفكريّة فأراها والريح تصفر فيها وقد بدت مقفرة خالية من السكان،في الوقت الذي تشهد فيه تغصّ المسارح الهزلية والنوادي التي تقدّم مادة فنيّة هزيلة لا تمتّ إلى الذوق السليم بأدنى صلة، حركة صاعدة هابطة في الاتجاهات كلها، وتزدحم بروّادها الذين يرتمون عليها ارتماء الظماء على ورد ماء عذب، ويبذلون الأموال لشراء تذاكر الحضور حتّى لو كان وضعهم الماديّ تعيساً، بينما يديرون ظهورهم للأمسيات الشعريّة واللقاءات الفكريّة المجانيّة ويقدّمون أعذاراً غير منطقية وغير مقبولة لتبرير أفعالهم هذه!.‏

أمّا الحديث عن الكتاب فهو حديث مليء بالشجون والدموع لأنّ وضع الكتاب العربيّ يليّن قلب الصخر، الكتاب فهو إمّا مشرّد لا يسمح له بدخول المنازل، أو منفيّ على الرفوف بإمرة سجّانه الغبار الكثيف.‏

وحركة الترجمة من اللغة العربية وإليها حركة مصابة بشلل جزئيّ، ونخشى أن يصبح شللاً كاملاً، ولا نريد أن نشير إلى عدد الكتب المترجمة إلى العربية كلّ عام، لأنّ هذا العدد يزيدنا إحباطاً وتشاؤماً.‏

ورغم قساوة المشهد فإننا سنظلّ مصرّين على إيماننا الراسخ بقدرة الثقافة العربية على النهوض من جديد، ولن تكون ثقافتنا ذكرى ولا تذكّراً، بل ستكون برهاناً حيّاً إنها سلالة ثقافة عريقة أغنت الإنسانية بأنوار المعرفة عصوراً طوالاً.‏

ولقد استطاعت الثقافة العربية يوماً ما حفر اسمها في سجلّ الخلود، ويغريها الحنين إلى ذلك السجلّ بالبحث عن صفحات جديدة فيه، وأملنا ألاّ يطول أمد انتظارنا ونحن نشاهدها وقد عادت إليه ليقول لها مرحباً بك وعلى الرحب والسعة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية