|
ثقافة وما يدل أبلغ دلالة على قوة حركة الشعر العربي الحديث ومقدرتها على الصمود في وجه التيار التقليدي المحافظ الضارب في جذور وجداننا الشعري والجمالي والقومي، إنها تجدد خلاياها دوماً في محاولة ذاتية دائبة منها على الانفتاح لا التشرنق والمواكبة لا الجمود والخروج الى العوالم البكر لا التقوقع على الدنيوات المكتشفة. (2) ظلت حركة الحداثة الشعرية تدور في حلقة جيليها الأول والثاني، جيل نازك الملائكة والسياب وسواهما ممن في الركاب وجيل صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ممن تأثرت خطاهما دوراناً مستمراًمكروراً حتى ظن المشفقون على مسار التجديد الشعري أنه آخذ بالزوال والانحسار بسبب دخول كثير من الشعراء الأدعياء الى حرمه أو حلبته لأن معظم من سار على طريق الجيلين السابقين من الأتباع لم يستطيعوا أن يطوروا تجربتهم الشعرية أو يجددوا وسائلهم الايصالية، وطغت على غالبية قصائدهم مسحة من التكرار والتسطح والخطابية والتقريرية وخاصة في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات إلى أن جاء أدونيس بقوة حضوره وشدة تأثيره، فأخرج القصيدة الحديثة من مأزقها وغسلها بمياهه البكر وأعاد تشكيلها مجدداً معتمداً على تراثية تحديثية ممزوجة بمؤثرات غربية متأتية من تجارب الشعر العالمي الكوني، طامحاً هو ومن شاركه وواكبه في هذا التيار المستحدث إلى تحقيق ما يمكن من الأهداف التالية: 1-تجديد اللغة الشعرية التي كانت قائمة على الصقل والاستواء والجزالة والنبر القوي والجهارة الواضحة في القصيدة السيابية والملائكية والبياتية وإنشاء لغة مستحدثة ومعاصرة تقوم على البريق والشفافية والهمس وتواكب ايقاعات العصر وتغوص في عمق التجربة الإنسانية وتجددت أدوات قصيدتها وتبتكر لها صياغاتها التعبيرية. 2-التخلص من تكلسات البلاغة العربية القديمة وترسباتها المتكئة على تراث طويل من الهندسة اللفظية والتناظر المعنوي، ومحاولة خلق بلاغة حديثة وطريق معاصرة في التعبير والتصوير تستفيد من قيم التراث البلاغية بعد توليدها وتجديدها وتحديثها حيث ينقلب الطباق القديم مثلاً لديها إلى عنصر للتضاد اللوني أو العاطفي أو الارجاعي أو النفسي. 3-ابتكار موسيقا جديدة للقصيدة الحديثة تحل وحدة المقطع الشعري المتتابع بنفس طويل حار متلاحق مطرد الزخم والايقاع، محل وحدة التفعيلة التي تشكل شطرات متتابعة طولانياً أو عرضانياً وعدم الاهتمام كثيراً بالقافية وترجيعاتها المصطنعة إلا إذا جاءت خادمة لبنية القصيدة وآفاق مراميها. 4-الاعتماد على قصيدة النثر في التعبير الشعري أو ما يسمى كتابة الشعر نثراً لرصد تجارب لها خصوصياتها ونوعياتها تضيق قصيدة التفعيلة باحتمالها. 5-العمل على استمرار ابتعاث القصيدة لذاتها الجوّانية ومن داخل صيرورتها الابداعية ومشروعها الشعري النقيض وذلك لاستيعاب التطور العصري المتلاحق والتعبير عن تجدداته ونبضه والشعور بمهمة جديدة للشاعر غير كونه يؤدي وظيفة اجتماعية أو يحل رسالة إنسانية فقط إلى كونه متنبىء عصر الحداثة ونجمه الأكثر سطوعاً وحضوراً في زمن طغت فيه العقول والأرقام والتكنولوجيات وصارت أغلى بكثير من العواطف والهموم البشرية والانسحاقات الوجدية. (3) لا شك أن أدونيس أثقل حركة الحداثة الشعرية في انتاجه الشعري بحالة من التعقيد والغموض والابهام والالتباس في المعنى والصورة واستخدام اللغة استخداماً منحوتاً بالفكر أكثر ما هو مترع بالشعر، وعمد إلى التعويض عن فتور العواطف الذاتية في قصيدته باللعب اللفظي على أنواعه وأشكاله فاستحال ابداع الشعر لديه إلى كتابة آلية قد يكون سعرها بسعر العمل اليومي لأي حرفي يشهد على ذلك طوفان دواوينه المتتابعة وإصداراته المتوالية في الشعر التفعيلي وفي قصيدة النثر لكنه كمبدع له شأوه العالي-والحق النقدي يقال- شديد التمكن من لغته الشعرية الحديثة المتأثرة بروح التراب العربي والمشدودة إليه تاريخاً وجذراً وشديد التمكن أيضاً من قدراته الايقاعية الملونة بألوان الطيف في نصه الشعري الحداثي العصي على التماهي بغير ذاته. |
|